إن مثل تلك الحياة التى تموج بالاضطراب تمنع الإنسان من تذوق أى شىء، مثل الذى يذهب لمحل روائح، ومن كثرة ما يشتم من روائح يفقد القدرة على التمييز بينها، وبصورة أوضح فإن نمط الحياة الحالى يصيب العقول بالتشويش، ويقف عائقًا أمام الوصول للمرحلة التى فيها تصنع الأخلاق ويحدث التجديد.. لماذا؟؟ لأن عقولنا مشوشة.
هذا هو معنى «ألهاكم التكاثر»، الذى يلهى عقولنا عن التركيز.. من فكرة لفكرة.. من رغبة لرغبة.. من متعة لمتعة.. حتى يصاب العقل بالإجهاد الشديد.. وهناك أسباب متعددة لذلك فى الوقت الحالى، على رأسها كثرة وسائل التكنولوجيا التى أصبحت جزءًا أساسيًا من حياتنا اليومية، فأنا مشغول بـ«الفيس بوك» من صفحة لصفحة ومن صورة لصورة، وبالتليفزيون من قناة لقناة.. وهكذا، لنجد أنفسنا فى النهاية تائهين غير قادرين على التركيز.
هناك من يظل طوال عمره يعانى من هذه المشكلة، ففى مراحل الدراسة من المدرسة إلى الجامعة.. التركيز صفر.. عندما يفتح الكتاب لا يرى كلمة... حتى أثناء الامتحان الذى يكون فيه قمة التركيز يفتقد لذلك.. فى العمل يذهب كل يوم متأخرا.. الإنتاج لا يزيد على 20 دقيقة يوميًا.. كل هذا بسبب انعدام التركيز.. بعد الزواج تظل المعاناة قائمة، فالزوجة تتحدث إلى الزوج وهو غير قادر على سماعها أو يرد عليها فيزداد الخلاف بينهما.
حتى يمكن أن نفهم كيف يتشكل وعى الإنسان، فلا بد أولاً أن نعرف المراحل التى تمر بها عقولنا تجاه ما نسمع ونشاهد ونقرأ فى حياتنا، وتتلخص فى 4 طبقات هى: فكرة (سهل تغييرها) - مفهوم (يحتاج عدة جلسات ليترسخ المفهوم) - سلوك (يظهر فى الالتزام بالعبادات وبعض الأفعال) - شعور الأعماق (وهو الأصعب ويحتاج فترة زمنية وهنا الأخلاق وكل أفكار التجديد).
فى حديثنا عن «العقول المشوشة» لا نكتفى بتحديد الأسباب والعوامل التى تتولد عنها هذه الأزمة
الخطيرة، بل أيضًا نطرح وسائل العلاج والتخلص منها، من أجل تحويل الكلام النظرى (التلقى) إلى سلوك عملى (منتج) حتى نحقق التغيير (الإبداع) الذى نسعى إليه سواء بداخلنا، أو فى محيطنا المجتمعى الذى نعيش فيه. كانت السيدة عائشة أم المؤمنين تعلم ابن أختها عبدالله بن الزبير بعض أحاديث النبى، صلى الله عليه وسلم، وفى إحدى المرات قالت له: «يا ابن أخت هل ترى أن ما تسمعه يغير فى سلوكك وأخلاقك بين الناس؟.. قال: لم أختبر نفسى يا خالة.. قالت: فارجع واختبر نفسك.. فإذا وجدت تغيرًا تعال وتعلم غيرها، وإلا فلا تزد الحجة علينا وعليك أمام الله»، وهو المعنى ذاته الذى قصدته أم سفيان الثورى- رحمهما الله- عندما قالت لابنها: «يا بنىّ، خذ هذه عشرة دراهم، وتعلّم عشرةَ أحاديث.. فإذا وجدتها تُغيِّر فى جلستِك ومِشيتك وكلامك مع الناس فأقبل عليه، وأنا أعينُك بمِغزلى هذا... وإلاّ فاتركه، فإنى أخشَى أن يكونَ وبالاً عليك يومَ القيامة».السؤال: هل يستطيع الإيمان أن يحل مشكلة أصحاب العقول المشوشة؟
الإنسان عبارة عن مجموعة طبقات.. الجسد طبقة، والفكر طبقة، والرغبات طبقة، والمشاعر طبقة، ومخاوف الحياة طبقة، والروح طبقة.. وأهم طبقة هى الروح، فلو كانت سليمة ستسمح للطبقات الأخرى أن تعمل بكفاءة، لو صفت الروح وصفا القلب تحدث العجائب. صفا قلب زكريا فى لحظة دعاء صادقة فاستجاب الله له فأنجب يحيى بعد سنين طويلة بلا إنجاب، صفا قلب امرأة تمارس الرذيلة فى لحظة فسقت كلبًا عطشان شربة ماء واحده فغفر الله لها كل ذنوبها، ولو ألف امرأة أخرى مثلها فعلت فربما لم يغفر الله لها، لكنها كانت لحظة صفاء القلب. صفا قلب مريم أم عيسى فى صلاتها وهى فى المحراب وحدها فكانت تأتيها فاكهة الصيف فى فصل الشتاء وفاكهة الشتاء فى فصل الصيف، صفا قلب رجل من أصحاب النبى اسمه أسيد بن حضير فى لحظات يوم الجمعة وهو يقرأ سورة الكهف فتنزلت الملائكة تحيط به وملايين المسلمين يقرؤون سورة الكهف كل جمعه بلا أثر. صفا قلب نيوتن لحظة فاكتشف قانون الجاذبية..
والملايين قبله لم يلتفتوا لهذا القانون، صفا قلب رجل قال لا إله إلا الله مرة واحدة بصدق فغلبت الكلمة كل سيئاته. صفاء الروح يجعلك تنطلق فى ملكوت السماء لترى ما لايراه غيرك.. يعنى إجابة دعوة أو تذوق معنى أو فهم كلمة أو تدفق فكرة.. كل من لديه قدرات عالية أو خارقة سببها الأساسى هو صفاء الروح والقلب والعقل.. الأمر يتلخص فى شىء واحد فقط «ركز وتذوق».