عبر تطبيقات المراسلة التى لا يكاد يخلو منها هاتف اليوم، وصلتنى منذ فترة رسالة.. الرسالة كانت من تلك النوعية التى يكثر تداولها وإعادة إرسالها عبر تلك التطبيقات، لكنها هذه المرة لم تكن موعظة عابرة أو نصائح عامة كالتى تمتلئ بها تلك الرسائل.. لقد كانت دعوة للتعدد، كانت مقالة منسوبة لكاتبة يغلب على ظنى أنها خليجية، والمفاجأة أنها كانت تدعو بكل حماس لتعدد الزوجات، بل تذم بشدة من لم يفعل وتراه رجلا مدجنا ضعيف الشخصية، ما أدهشنى أن المقال انتشر كالنار فى الهشيم واحتفى به الكثيرون نظرا لمنطق «وشهد شاهد من أهلها» وكأن التعدد الذى هو تشريع إلهى كان بحاجة لتلك الشهادة! لسان حالهم: الكاتبة أنثى إذن فهو انتصار فى تلك المعركة الوهمية التى تُضخم جدا لدى قطاع كبير ممن يطلق عليهم لفظ (الالتزام) والتمسك بالشرع والتسنن بسنة النبى، فلا يكاد التعدد يُذكر ولو على سبيل المزاح إلا وتجد الكثيرين قد تعالت صيحات التحسر من أفواههم وبدأت الإشارات الواضحة إلى رغبتهم العارمة فى تطبيق ذلك التشريع والمسارعة إلى ذكر فوائده ومميزاته مع إبداء الحزن الشديد على ما آل إليه حال الأمة لما هجرت ما يسمونه بـ(سنة التعدد).
والحقيقة أن هذا التناول أراه قاصرا جدا، وأخشى أن يحتوى شيئا من الهوى يتم تلبيسه بثياب الشرع، لقد عدَّد النبى، نعم هذه حقيقة وهو أيضا لم يعدِّد.. تلك حقيقة أخرى، عدَّد بعد وفاة أمنا خديجة ولم يعدِّد أبدا فى حياتها، كل حال من الحالين- إذًا- سنة ثابتة عنه، ما الداعى إذًا لذلك الإصرار المريب على قصر السنة على التعدد بل كما يقول المحققون من أهل العلم: التعدد تجرى عليه أحكام الشرع الخمسة حسب حال الشخص نفسه، وكأى تشريع محكم من رب العالمين للتعدد فوائد جليلة ويعد علاجا لكثير من الأزمات المعاصرة لكنه يظل علاجا وليس العلاج الوحيد، هو حل أحيانا.. وليس الحل الجامع لكل شىء، المشكلة أن البعض يستنكف أن يعترف بحقيقة التعدد بالنسبة له سواء فعله أم لم يفعله، يستنكف أن يصارح نفسه أنه فقط يريده.. يحبه.. يشتهيه.. وله ذلك.. فالأمر فى نهاية الأمر أصله مباح ولا ملام على من فعله مادام يعدل ويضبط شهواته قدر وسعه بميزان الشرع، لكن لماذا الكذب على النفس والإصرار على تكلف المبررات التى يشهد الواقع المعاصر أن كثيرا ممن يعددون قليلا ما يتزوجون لأجل تلك المبررات.
نعم.. من خلال المشاهدات الواسعة والمشاكل التى تعرض علينا ولا نكاد نحصيها فإننا نخلص إلى أن النسبة الكبرى من المعددين لا يتزوجون لحل مشكلة العنوسة ولا للعناية باليتامى والأرامل بل وقليلا ما يتزوج أحدهم على امرأته ثيّبًا تزوجت من قبل، حين يعدد فهو يبحث عن الجميلة أولا.. صغيرة السن ثانيا.. مستقرة الظروف والأوضاع ثالثًا.. أكرر.. لا ألومه على ذلك إن كان مباحا فى حقه وطبق ضوابطه وشروطه، الملام على من أصر أن يلبس الأمر ثياب التضحية لإنقاذ الأمة من مشاكلها وهو لا يقصد ذلك فى حقيقة الأمر. الملام على من ظل يغطى رغبته الحقيقية التى لا يجرؤ على إشباعها بدعاوى إحياء السنة وإقامة التشريع المهجور. الملام على من صور المعدد على أنه بطل الأبطال المغوار ورمز الفحولة المذهل الذى يتمنى الجميع أن يكونوا مثله، الملام على من ظن أن معيار الرجولة الوحيد هو التعدد، وأن سبب الانبهار الرئيسى هو قدرة الرجل على الجمع بين الزوجات -بل الجوارى إن وُجدن- بينما يحتقر بلسان حاله ذلك الرجل الذى يحسن عشرة زوجه أو يحاول، وذلك لأن المسكين مفرد لم يعدد ولم يرغب فى التعدد! من أراد التعدد ورأى فى نفسه القدرة على الالتزام بضوابطه وشروطه فليفعل، هو حر، لكن فليكن صريحا مع نفسه ولا يتشبع بما لم يعط، والأهم أن يضع الأمر فى نصابه ولا يفتعل معركة وهمية أو بطولة مخترعة لمجرد أنه أراد أن يتزوج من جديد.