كنت أرى أن مبادرة وقف العنف كان فيها قدر هائل من الإخلاص والمصداقية والرجولة وشراء الآخرة وبيع الدنيا وجاه كل القادة الذين تصدوا لأمرها، وكنت ألمس فى فريق الدولة وعلى رأسه المرحوم اللواء أحمد رأفت إخلاصاً وتجرداً كذلك لوقف نزيف الدماء، فقد كان طريق إغلاق السجون على آلاف المعتقلين أسهل بكثير على الدولة والأمن من سلوك طريق السلام والصلح المحفوف بالمخاطر، والذى يستلزم الإفراج عن الآلاف وتحمل هذه المخاطرة.
أسعدنى طريق المبادرة والصلح رأيت المئات ثم الآلاف يخرجون من السجون بعد أن كانوا يدخلونها فقط. انعكس الاتجاه نحو الخروج وفتح أبواب السجون بدلاً من إغلاقها. رأيت الزنازين المغلقة تفتح ثم العنابر المغلقة تنفتح على الأخرى.. رأيت الزيارات تفتح.. سمعت بكاء الأسر وهى تلتقى بابنها أو زوجها المعتقل بعد أن كادت أن تنسى وجهه وشكله وقد صنعت فيه السنوات ما صنعت.. رأيت أولاداً وبناتاً لا يعرفون شكل أو وجه أبيهم.. رأيت الأب المعتقل لا يعرف شكل أولاده فى بداية فتح الزيارات، فقد تركهم صغاراً أو لم يولدوا بعد، وها هو يراهم أقرب إلى سن الشباب. رأيت معتقلين مكثوا ثمانى سنوات كاملة منعت عنهم الزيارات أو أغلقت عليهم الزنازين الانفرادية سنين عددا.. فلما جاءت المبادرة وخرجوا منها كانوا ينظرون إلى الشمس بصعوبة ويتحركون بعسر وبطء حتى دبت الحياة فيهم بعد أن بدأوا ممارسة الحركة والرياضة ورؤية الشمس، فقد كانت المبادرة بمثابة قبلة الحياة لهؤلاء.
لقد حببنى ذلك كله فى السلام، ورغبنى فى الصلح، وجعلنى أقرأ كل شىء عن هذا الفقه العظيم، وعن السلام والتصالح كأعظم آلية لحقن الدماء وتحويل الخصوم والأعداء إلى أصدقاء وأولياء، وجعلنى أحب كل من يصنع السلام، سواءً كان مسلماً أو غير مسلم، فأحببت رائد فقه الصلح النبى الكريم الرحيم محمد «صلى الله عليه وسلم»، والذى أجرى عشرات المصالحات التى تستحق الدراسة العميقة وعلى رأسها «صلح الحديبية»، الذى استفاض العلامة ابن القيم فى شرح عبره وعظاته.. وأحببت المسيح ابن مريم حباً جماً، لأننى رأيت حياته ورسالته كلها تتلخص فى أمرين صعبين جداً هما «الحب والسلام»، رغم كم العداوة والكراهية والبجاحة وسوء الخلق التى تعرض لها من حكام الرومان وسدنة معابد اليهود.. وأحببت الحسن بن على «رضى الله عنهما»، الذى كان نموذجاً عظيماً للصلح وهضم الذات وحقن الدماء.. ومن هذا الباب أحببت مانديلا الذى نشر السلام والعفو والتصالح بين السود والبيض.. وأحببت السادات الذى يعد الرئيس العربى الوحيد الذى نجح فى الحرب والسلام معا، وانتصر فى المعركتين معاً، واستطاع أن يحرر كامل تراب وطنه بأقل خسائر ممكنة، وكان سابقاً لعصره وأوانه، وكانت هذه أزمته مع من حوله، فويل لمن سبق عقله عصره، ومن هذا المنطلق أحببت أيضاً ياسر عرفات الذى حاول أن يحرر حدود 5 يونيو من فلسطين بالسيف تارة فلم ينجح، وبالسلام تارة فلم ينجح، فرفض أن يبيع وطنه من أجل بقائه، فحوصر فى بيت صغير، ثم لقى الله مسموماً على يد المخابرات الإسرائيلية، ونحسبه من الشهداء بإذن الله. وقد كانت مبادرة منع العنف بمثابة الانطلاقة الفكرية الواسعة لى وشعورى أن بقاء الإنسان داخل أى جماعة أو تنظيم يقيد حركته، ويشل فكره، ويجعله دائماً مرتبطاً بإطار لا يستطيع الخروج منه أو عنه.
لقد كانت المبادرة هى البداية الحقيقية لمحبتى للسلام والوئام والعفو والصفح بلا حدود، فأحببت كل من سعى للصلح والسلام، وكل من حقن الدماء، أو سعى فى ذلك، ومن خلال المبادرة توثقت صلتى بشيخى العظيم وأستاذى الكبير الحسن بن على «رضى الله عنه»، الذى هضمه الجميع حقه حتى الشيعة الذين يتحدثون صباح مساء عن حب آل البيت أغمطوه حقه وهضموه، ولم يذكروه بشىء، رغم أنه الأخ الأكبر للحسين، ورغم أن الرسول «عليه الصلاة والسلام» مدحه كثيرا ومدح مسيرته فى الصلح والسلام.
سلام على كل من حقن الدماء.. سلام على كل من سعى فى تفريج كربات الناس.. سلام على من أخرج الناس من السجون.. سلام على من سعى للصلح بين الناس. سلام على كل من هضم جاهه، وبذل ماله وعمره لكى يحيا الناس فى سلام وأمان.. سلام على كل من نزع الكراهية بين الناس، وكرم الإنسان كل الإنسان تطبيقاً لقوله تعالى «ولقد كرمنا بنى آدم».. سلام على كل من قدم سلامة الإنسان والأوطان على الأحزاب والجماعات والأهواء والمناصب والأغراض.