كنا قد أشرنا فى مقال سابق أن مشكلة العالم المعاصر اليوم ليست هى المفاضلة بين تدخل الدولة فى الاقتصاد من عدمه، بل هى مقدار تدخل الدولة فى الاقتصاد لتحقيق قدر من التوازن الاقتصادى والعدالة الاجتماعية. وحيث إن هذا النقاش قد انتهى إلى غير رجعة، وأصبحت جميع الدول حتى الرأسمالية منها تؤمن بالتدخل، فأمريكا وأوروبا وكثير من دول شرق آسيا قد لجأت بعد الأزمة المالية العالمية 2008م إلى شراء البنوك ومؤسسات التمويل العقارى وكثير من المشروعات الصناعية هناك، وتوسعت فى الإنشاءات الحكومية الجديدة حتى أصبح جزءا كبيرا من الاستثمارات التى تقام فى تلك الدول استثمارات حكومية وصلت إلى 25% من الناتج القومى فى أمريكا .
عليه نخلص هنا إلى أن المذهب الفردى الرأسمالى المطلق العنان، هو مذهب الأقوياء لصالح الأقوياء، أما الضعفاء لا يستطيعون أمام ضعفهم فى هذا النظام أن ينعموا بالحرية التى نص عليها الدستور والقانون، مثلهم مثل الأقوياء، بحيث لا يكفى أن يعطى العامل أو الفلاح أو الموظف متوسط الحال ومحدودى الدخل والفقراء الحرية بالقانون، بل يجب أن نضمن لهم الحرية عملاً، فالمؤكد أن هؤلاء فى الانتخابات الحرة لا يستطيعون أن يكونوا أحراراً فى الإدلاء برأيهم، وقد شاهدنا ذلك فى مصر حينما كانت الدساتير السابقة تعطى الحرية القانونية للشعب (شكلا) وكان الشعب يجمع جمعاً إلى صناديق الانتخابات ليدلى بأصواته إلى النخبة من كبار وعِلية القوم من أنصار السلطة والحزب الحاكم (وطنى كان أم حرية وعدالة)، والشعوب للأسف فى أغلب دول العالم الآخذة فى النمو معذورة تماماً فى هذا المسلك لأنهم لا يملكون من الحرية إلا الاسم ولم يملكوا منها المعنى الحقيقى.
وأمام هذا الوضع المرفوض، كان من الضرورى أن ننشر فى مصر "المبادئ الوسطية" علاجاً للأزمات التى انتشرت وتكررت عندنا فى الخمس سنوات التالية لثورة يناير 2011، وهو ما أدركته الإدارة المصرية منذ تولى الرئيس السيسى الحكم وأدخل فكرة التنمية الشاملة الجماعية، فالتنمية الجماعية تتخذ من المجتمع دون الفرد هدفاً لها، فالجماعية إذن "نظام ومعنى مختلط" مقابل "للنظام الفردى الرأسمالى الجشع" ومقابل أيضاً "للنظام الاشتراكى المسقط لحق الفرد فى التنمية"، بحيث تتخذ من المجتمع ككل هدفاً، ومن سلطة المجتمع (أفراد وجماعة) وسيلة لتحقيق هذا الهدف، وهنا يتضح التقابل بين المذهب الفردى والاشتراكى والمذهب الجماعى من ناحية أخرى، والذى يحتوى على الاثنين. وهو ما يتطلب إذاً أن تتواجد الملكية الخاصة مع الملكية العامة، وأن توجد سلطة الدولة مع حرية الأفراد، وأن يتناغم إشباع الحاجات العامة مع تحقيق أكبر ربح ممكن للأفراد دون استغلال للمجتمع.
وقد بدأ هذا واضحاً فى سياسة الإدارة المصرية فى أغلب المشروعات القومية التى انطلقت مع بداية حكم الرئيس السيسى من قناة السويس الجديدة وحتى الآن، حيث نجد الدولة والقطاع الخاص الوطنى جنباً إلى جنب فى تلك المشروعات وعلى كل المستويات، وأن تحل الدولة محل القطاع الخاص فيما لا يقدر عليه الأفراد وحدهم، وأن يحل القطاع الخاص محل الدولة فيما لا يلزم وجود الدولة لتتفرغ الدولة لدورها الأهم وهو حماية المجتمع والحفاظ على حقوق الفقراء ورفع مستوى الخدمات العامة ومنع استغلال طبقة لأخرى، وأخيرا وإقرار الأمن القومى الداخلى والخارجى والحفاظ على الوطن سلامة أراضيه، وعلى أن يتعاون الطرفان (الدولة والقطاع الخاص) فيما هو صالح لمصر والشعب المصرى ومستقبل الأجيال القادمة، على أسس قانونية منصفة للطرفين، شريطة ألا تجور المصالح الفردية أبدا على مصلحة المجتمع، ولا يستغل الأغنياء الفقراء. فتتحقق التنمية الشاملة والعادلة وتوزع ثمارها على مجتمع الملايين لا مجتمع أصحاب الملايين فقط، كما كان الحال قبل ثورة يناير 2011، وهنا فقط يكون قد تحقق قدر مقبول من العدالة الاجتماعية المنشودة.
• أستاذ الاقتصاد السياسى والمالية العامة – جامعة القاهرة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة