إن تشبث أى أمة بوحدتها وسلطتها الذاتية يجعلها تنفض عنها غبار الذل شيئًا فشيئًا، ويقل اعتدادها بطرائق الزلفى ومظاهر الملق، إذا المعقول أن تكون عناية الناس قد بالغوا فى إظهار خضوعهم فى هذا الزمن (بعد الثورة) إلى هذا الحد دون نقاش أو نقد موضوعى، فى ظل رغبة الإصلاح وهو مطلب جماهيرى واسع القبول، سائدة على نسبة عكسية مع تقدمها فى هذا الطلب المشروع لتقويم الحال من خلال مجلس النواب القدم بما يتناسب مع مرحلة ما بعد الثورة لتدفع مصر إلى الأمام. فما الذى جرى حتى تغيرت الحال؟
أخذت علاقتنا ببعضنا وأحزابنا تطبع ثانية بالطابع القديم، وأين هؤلاء الذين كانوا يقدمون علينا (نحن الشعب) فيوسعوننا لومًا على أننا لا نكرر ونعيد كل يوم فى نظرية علاقة الشعب بالنخبة والساسة والسلطة والحكم، وأننا لا نبين للناس جميعًا فى الداخل والخارج القدر الذى يكفى فى إقناعهم بأننا أحرار فى أنفسنا، أحرار فى آرائنا، أحرار فى اختيار الطريقة التى نحكم عليها فى أمورنا. وهنا أرجع إلى ذاكرتى، فيضحكنى ذكر حديث جرى بينى وبين أحد كبار موظفى الحكومة المخلصين، قال: "لماذا لا تكتب ضد تصرفات بعض ممن فى السلطة وبعض الساسة بالشدة الأزمة؟" قلت: "كفى بالنقد شدة"، فقال: "ولكن الحدة فى إبدائه تزيده شدة على شدة" فقلت: "إن أثر القلم فى كرامته، والحدة تذهب بالكرامة، ومع هذا فهل تضع لى نموذجًا فى شدة الانتقاد آخذه عنك؟"، فقال: "والله أفعل".
فأشفقت على الرجل من الاسترسال فى حدته، وأعرضت عنه معجبًا بحبه لحرية الرأى، وإن لم أك لا عجب بفهمه حدود الانتقاد المفيد وتقديره لمنازل الكتابة فى الشدة والضعف. ذلك نموذج من تلك الروح العامة التى كانت تتجلى على كل طبقات الأمة إلى عهد قريب، والتى كانت المثابرة عليها بالمعروف، وألا يغال فيها بالرفق، موصلة حتمًا إلى غرض الأغراض، وهو تأييد حرية الرأى، وتفكيك عرى القيود التى تقيدنا بماض من الاستبداد العلنى والمستتر بكل أشكاله، حتى ولو كانت باسم القانون، واحمدناه، ولا حنت نفوسنا لذكراه أبدًا. أنا لست نصيرًا لأى حكومة فى حد حرية الرأى بهذه الحدود الضيقة، بل أقول لا أجد عملها ينتج أية نتيجة مفيدة لأمه ولا للحكومة ذاتها، فى أى زمان ومكان، فى هذا المجال.
وأذكر فى هذا المعنى ما كان من خطابات موجهة من بعض رجالات الحكومة والسابقة فى حد حرية الرأى وإظهار عدم الرضا عن تلك الفكرة والامتعاض منها بطرق عدة كلنا يعرفها الآن.
أعلم أن حكومات ما بعد ثورة يونيو 2013 تعانى من فكرة حرية الرأى وإن كانت تعلن أنها مشجعة للحرية السياسية، إلا أنها على ظنى تعرف جيدًا أن الرأى إذا غلا فى رءوس أصحابه الأبد لاتقاء نتائج غليانه من منفذ تخف به شدة الغليان، وذلك المنفذ هو حرية الصحافة، وحرية الرأى، أى حرية القلم واللسان ولست نصيرًا أيضًا للحكومة فى التضييق على حرية الصحافة بأى شكل من الأشكال، ولكنى أعترف من جهة أخرى بأن كثيرًا من غير الصحفيين والكتاب يسبقون الحكومة نفسها فى التضييق على أنفسهم، ويعلمون كما لو كانت القوانين الصحفية وضعت خصيصًا لهم، وتناولت الحظر على إبداء آرائهم بحرية متى طلب منهم ذلك. هذا هو الذى نلفت أذهان الناس إليه، أنهم لا يزالون بحكم القوانين والدستور أحرار فى إبداء جميع أرائهم فى المجالس الرسمية وغير الرسمية، وحين يطلب ذلك فى أى مقام من مقامات الحكم.
إن حرية الرأى يجب أن تظل محمية بالقوانين العامة فهى لا تكلف صاحبها ثمنًا غاليًا، بل لا تكلفه ثمنًا أصلاً. نسوق الكلام إلى الذين تجعلهم منزلتهم منا موضوعًا لسؤال أصحاب السلطة إياهم عن الأحوال فى مصر الآن، ودرجة الأمة من الرضا بالحال الحاضر.
نسوق إليهم الكلام ونؤكد لهم أن ولاة الأمور يجب أن يكونوا أعدل من أن يمتعضوا من أثار حرية الرأي. وأن قوانين البلاد يجب أن تحمى حرية الرأى، وأن المرء يجب عليه لذاته ألا يداجى فى رأيه، بل يبديه بحرية وصراحة ولو كلفه ذلك ما كلفه، فكيف به إذا كانت حرية الرأى لا تكلفه شيئًا مذكورًا؟. وعلى مجلس النواب القادم ان يحافظ على حرية الرأى بكل اشكالها طالما انها فى حدود الدستور والقانون والآداب العامة والقيم الدينية الصحيحة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة