«يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة»، فاجأ النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه بتلك الجملة بين يدى دخول ذلك الرجل، لا أحد يعلم اسمه ولم تعرف روايات لهذا الحديث تشتمل على لقبه أو كنيته ولا عرفت شخصيته أو أثارت عنه مواقف أخرى، فقط تلك الصفة العظيمة التى وصفه النبى بها، وعرفنا بعد ذلك سببها الذى لم يكن كثرة صلاة ولا صيام، إنه رجل يعيش جنة فى الدنيا بلغته أن يكون من أهل جنة الآخرة، جنة النقاء وطهارة القلب.
تحدثنا فى المقالين السابقين عن خصائص جنة الآخرة وسعادتها، يستطيع الباحث عن تلك السعادة وطالب تلك الجنة أن يبلغها، وهو لم يزل بعد فى هذه الدنيا، إنها قبسات من نعيم الآخرة يمكن لمحها وتذوقها فى الدنيا، من ضمن تلك النعم سلامة الصدر وطهارة الفؤاد، من نعيم أهل الجنة أن صدورهم مطهرة منزوعة الغل، يرفلون فى ثياب المحبة ويتقلبون بين واحات سلامة الصدر ونقاء الطوية ويستظلون بوارف ظلال الأخوة الإيمانية، وفى هذا يقول الله: «وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَاناً عَلَىَ سُرُرٍ مّتَقَابِلِينَ» من ذلك يتبين أن الغل والحقد حين يستعر القلب بلهيبه، فإن هذا من عذاب الدنيا وضيق عيشها الذى يحجبه الله عن أهل الجنة ويطهرهم منه. إن صدر الحاقد دائما ما يكون ضيقا مليئا بالحزن يمزقه اللهاث المسعور، ويسيل لعاب طمعه على ما فُضل به غيره، وهو لا يرتاح أبدا، لأنه يرى أن الكل لا يستحقون ما هم فيه، بينما هو وحده من يستحق! ولو أنه انشغل بأداء ما عليه واجتهد ثم ترك النتائج لمن يخفض ويرفع ومن بيده الضر والنفع لارتاح وأراح.
أما لو ظل يمد عينيه إلى ما متع به غيره، فسيظل فى ذلك العذاب طويلا إلا لو جرب يوما أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وهو بالمناسبة شعور أجمل بكثير من الحقد، وبدلا من سيطرة تلك المشاعر على نفسه لدرجة تجعله يبغض ذلك المحقود عليه، ويمتلئ صدره بالغل تجاهه، وربما تطور الأمر إلى الحسد وتمنى زوال النعمة عنه، فإن عليه أن ينشغل بما ينفعه، ويصلح حاله لعله يرزق نقاء السريرة وسلامة الصدر التى هى من أعظم وأجل النعم.
أما أكثر ما يطهر القلب من الغل والحقد وينقى النفس من شوائب النظر لما فى أيدى الغير، فهو إدراك الإنسان لمعنى القاعدة القرآنية الجامعة «إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِى صَخْرَةٍ أَو فِى السَّمَاوَاتِ أَوفِى الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ»، فإن أدرك العبد أن ربه وحده هو من يخفض ويرفع ويعطى ويمنع، وأن مطالبه مهما كانت بعيدة وصعبة المنال فلا يأتى بها إلا هو؛ فعلى ماذا يحسد ولماذا يحقد؟! إن عبارة «يَأْتِ بِهَا اللَّهُ» إن صارت مبدأ حياة تنعم المرء وسلم صدره من أسقام الحقد وأدران الغل وأوجاع الحسد واستبدل كل ذلك بالطمأنينة والرضا
وحب الخير للناس.
وهذا النوع من النعيم تستطيع تذوق لذته فى الدنيا، وذلك بشىء بسيط يسير فقط على من يسره الله له وصدق فى طلبه بأن تطهر قلبك وتصفى سريرتك تجاه الناس بأن تبيت–أو على الأقل تحاول–وليس فى صدرك غل للمؤمنين كحال ذلك الرجل من أهل الجنة، الذى صدرنا الكلام بقصته، يعينك على هذا أن تعود لسانك على دعاء الصالحين «رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ».
إن حققت تلك الأخوة وأدركت سلامة الصدر وأحببت لأخيك ما تحب لنفسك وكلَّلت ذلك بإحسان الظن والتماس العذر، وختمت على ذلك بختام العفو والصفح الجميل فهنيئا لك.. لقد سرت خطوة أخرى فى رحلة البحث عن السعادة وأدركت شيئا آخر من نعيم أهل الجنة، وأنت لم تزل فى الدنيا.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة