وكما هو معلوم للبعض وغير معلوم للبعض الآخر حسب ما ورد فى قانون كريشام، وهو قانون علمى اقتصادى مشهور كان له دوره فى النظم النقدية عرف باسم قـائلة السير توماس كريشام مستشار ملكة إنجلترا. ويتلخص هذا القانون فى العبارة المشهورة النقود الرديئة تطرد النقود الجيدة من السوق، ذلك أنه فى البلاد التى يجرى فيها تداول نوعين من النقود القانونية أحدهما ردىء والآخر جيد فإن الردىء يطرد الجيد من التداول بين الناس، وقد لاحظ جريشام هذه الظاهرة فى بلاده إنجلترا كلما ضربت نقود جديدة لتحل محل نقود قديمة، لا تلبث أن تختفى النقود الجديدة من التداول، ويعود السبب فى ذلك إنه طالما كانت للنوعين من النقود نفس القوة الشرائية تجعل الشخص مخيرا فى أن يؤدى ما عليه من ديون أو تسديدات نقدية بالعملة الرديئة أو الجديدة فإنه يعمل على تسديدها بالعملة الرديئة مستبقيا العملة الجديدة عنده بعيدا عن التداول فى السوق، ولا يستعمل فى مدفوعاته سوى العملة الرديئة .
وهذا تحديداً ما يجتاح المجتمع المصرى فى شتى مناحى الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفنية والاعلامية إلى آخره !
فقد تبدلت الأحوال وفسد الذوق العام لدى المصريين بشكل قلب الموازين وجعل من الباطل حقاً ومن الحق باطلاً، كما أطاح بالصالح لصالح كل ما هو طالح !!
فعندما نستعرض الصورة بشكلٍ عام قد نصاب بالذهول التام فعلى سبيل المثال لا الحصر
فى مجال السياسة:
على الرغم من انتهاء سنوات القمع وخرس الأصوات المعارضة وانفتاح الباب على مصراعيه للجدل والاعتراض وعُلو الأصوات منذ بداية ثورة يناير وحتى الآن وخروج عشرات الأحزاب السياسية الجديدة وظهور زعماء ورموز كنا نظنها كذلك، إلا أن المجتمع المصرى وبعد خمس سنوات من إتاحة الفرصة كاملة لم يفرز رمز أو حزب أو قائد يتفق عليه أكثر من مائة شخص من واقع تسعين مليون مصرى!
ولم تُسفر تلك الضجة السياسية عن شىء يذكر ولم تتكون جبهة للمعارضة يحترمها الناس ويستمعون لها، ولم يحظى أياً من الأحزاب السياسية بأية شعبية!
وكانت النتيجة (أحزاب بدون رصيد شعبى، رموز فاقدة للثقة بل متهمة بالخيانة فى معظمها، نخب سياسية فاشلة، فراغ سياسى كبير، شقاق وخلاف بين المصريين يتسم بالحدة وضيق الأفق والجمود والتعنت فى الرأى من أجل التعنت فحسب، فبات المجتمع المصرى منقسم ما بين مؤيد للاستقرار والدولة وهم الأكثر ومعارض للنظام وللدولة دون وعى ودون طرح أية بدائل وهم قطاع كبير من الشباب ومن لهم مصالح توقفت بعد هدوء الأوضاع، ومن لا يكترثون بهذا أو ذاك ممن أصابهم الإحباط واسودت الدنيا فى أعينهم باكين على أطلال الثورة التى انطفأت جذوتها وباتت حياتهم جحيماً من دونها !!
فى مجال الإعلام:
أما من ناحية الوسط الإعلامى المتقلب تقلب الأمواج العاتية يوماً بعد يوم تبعاً للهوى وربما للتوجيهات الصادرة عن رؤوس الأموال الضخمة التى إشترت قنوات وأسماء شهيرة وراحت تحركها حسب كالدُمى، فترى الإعلامى المؤيد المساند الداعم بقوة اليوم، معارضاً شرساً ومخالفاً حاداً، مولولاً على كل صغيرة وكبيرة، مسلطاً الضوء على كل السلبيات، متجاهلاً كافة الإيجابيات، مسوِداً الدنيا فى أعين المشاهد الذى بات فريسة لتقلبات الإعلام الخاص برجال الأعمال تقلب الزمن والأيام !
وفى ظل هذا التوحش والسيطرة المسيسة للإعلام الخاص الذى بات خاوياً من المضمون الجاد والثقافة والذوق والمعلومة ذات الفائدة، توارى ودخل طى النسيان التليفزيون الرسمى للدولة، حيث أنه فى هذا الغزو الإعلامى المدعوم بالمال الوفير والذى استقطب الأسماء الشهيرة وزغلل عيون نجوم الإعلام بملايينه المملينة، لم يجد هذا الصرح العتيق من يسانده مادياً وتقنياً وفنياً، فلم تعد الدولة قادرة على التمويل الكافى من ناحية، ولم تعد هناك كفاءات باقية على العهد دون مقابلات مادية مغرية، ناهيك عن رعاة الجمود والبيروقراطية وانعدام التطور ومحاربة الإبداع الذين يسكنون هذا المبنى حتى بات خاوياً على عروشه، وتم تفريغه من الخبرات والمبدعين الذين التقطتهم أيادى الوافدين الجدد وأغرتهم بالمال الكثير، فلم يعد يسكن هذا الرمز الإعلامى الذى كان يوماً قبلة للمبدعين سوى مجموعة من الموظفين غير المرغوب باستقطابهم من ملاك القنوات اللامعة !
هل تستيقظ الدولة وتخصص قدراً مناسباً من مقدراتها المالية لإحياء تليفزيون الدولة واستعادة بريقه فى مواجهة هذا السيل الجارف من الغزو المقنع للإعلام الخاص؟
فى مجال الفن :
أما عن الفن بكل أشكاله فقد أصابه ما أصاب المجتمع المصرى كله من اختفاء للعملة الجيدة وانتشار واسع للعملة الرديئة!
فمصر التى كانت يوماً ليس ببعيد منافساً ونداً فى سينما الخمسينات للسينما الأمريكية وانتجت روائع لا تقل فى قيمتها عن روائع السينما العالمية، والتى أخرجت نجوماً لا ينساها التاريخ فى صدر صفحاته المضيئة، وصل بها الحال فى السنوات العشر الماضية إلى ما وصل، فتصدرت أفلام (السبكية) دور العرض السينمائى، وأصبح نجوم السينما المصرية وأبرز شخصياتها: (عبده موتة) ومن على شاكلته !
ناهيك عن تفاهة وسطحية وركاكة الأفلام وكم العنف والدم والعرى والبذاءة التى تحتويها تلك الاسكتشات الفارغة من أى محتوى !
وما أصاب السينما قد أصاب الأعمال التليفزيونية التى وُلدت عملاقة ثرية، فقد ضمت مكتبة قطاع الإنتاج المصرى مجموعة من روائع المسلسلات التى كتبها وأخرجها وقام بتمثيلها نخبة من كبار الكتاب والمخرجين والممثلين، والتى تربت عليها أجيال وشكلت وجدانهم وأثرت عقولهم بالقيم والمبادئ وغرست بنفوسهم الوطنية وسردت القصص والملاحم ما بين وطنى وإجتماعى وتراثى وكوميدى تجمعهم القيمة الكبيرة والإبداع الفنى .
فتدهور بنا الحال تدهوراً غير مسبوق، وتصدرت الأعمال التافهة التى تعتمد على الإثارة بكافة أشكالها والتطويل الممل لإنتاج عدد ساعات أطول وإظهار المجتمع المصرى بشكل خيالى بعيد شكلاً وموضوعاً عن الواقع وعن المشاهد الذى يتلقى كماً هائلاً من الاستفزاز لما يراه ويسمعه والذى لا يعبر عنه ولا يمس قلبه ولا يتناول مشكلاته الحقيقية، فتحولت الموضوعات الدرامية إلى مجرد اسكتشات هى الأخرى تعتمد على الملابس الخليعة للنجمات والألفاظ النابية التى تخدش الحياء والعنف والقتل والدعارة وكل ما يخالف قيم وتقاليد المصريين، وعندما يبحث المشاهد عن موضوع درامى أو قيمة أو مضمون يتلقاه، لا يجد !!
فتحول المشاهد المصرى إلى باحث بين مئات القنوات الفضائية عن الأعمال المعادة من زمن الفن الجميل ليجلس أمامها متابعاً لعدة مرات يكتًر من خلالها نسمات العملة الجيدة التى راح زمانها بفعل العملة الرديئة !
أما عن الغناء والطرب فحدث ولا حرج ،، يكفى أن عمالقة الغناء والأصوات الطربية الأصيلة توارت لصالح مؤديين متسببين فى التلوث السمعى وإفساد الذوق الذى أصاب الأجيال الجديدة، حيث أصبح مطربى الجيل هم أوكا وأورتيجا وغيرهم من نماذج العملة الرديئة على حساب العمالقة الذين لم ينجب الوطن العربى كله مثيلاً لهم!
اكتفى بهذا القدر حتى لا أطيل على حضراتكم وسنستكمل فى مقالات قادمة قانون العملة الرديئة التى اجتاحت المجتمع المصرى.
(( هنا الضد بالضد باد واستبد ما تعرف مرارنا هزار ولا جد ))
((و ده نهار عمل ولا جمعة وحد ولا حد خد باله من أى حد ))
أختتم مقالى بكلمات الشاعر الكبير سيد حجاب وبها خلاصة الكلام .