للكون نظام، وللعقل نظام، والمعرفة هى مطابقة هذين النظامين. فالنظامان من معدن واحد، والمطابقة بينهما ممكنة لما فيهما من تشابه، ولو لم يكونا متشابهين لاستحالت المعرفة، ولو لم تكن المطابقة بينهما متسقا ما علم بى آدم شيئًا.
وتشابه النظامين الكونى والعقلى ليس فرضا يحتاج إلى برهان بل هو جوهر امكان المعرفة، ومن ينكر ذلك فقد أنكر المعرفة كلها. ولو أن النظامين كانا مختلفين، ما استطعنا نحن البشر من تحقيق شىء بالعلم والمعرفة على مر الزمان. ومهما اختلفت مذاهب التفكير أو تغيرت فهمنا للكون مع تطور العلوم، فإن الحقيقة الثابتة قطعًا هى هذا التوافق بين نظام الكون ونظام العقل المتعلم والمتفتح للمعرفة. والخلق علموا علما كثيرا، منذ بدء الخليقة، بعضه خطأ وبعضه صواب، وبعضه يحتمل الخطأ وبعضه يحتمل الصواب النسبى فى كل الأمور، فالكمال لله وحده عز وجل وإذا أردنا أن نبلغ جزءا من الحقيقة العلمية للكون فلا بد من العمل على أن تكون كل أجزاء المعرفة متسعة على نظام واحد ( وهو الترتيب المنطقى للأشياء القائمة على العلوم والمعرفة). ومع ذلك ظهر خطأها حين اتسعت المعرفة والعلوم الحديثة، واضطر الناس إلى نبذ كثير منها بعد أن ظهرت حقائق المعاصرة الجديدة، والتى يصعب التوفيق بينها وبين المذاهب الفلسفية والعلمية القديمة.
والأمر فى الحقيقة يرجع إلى الواقع المضطرب والذى تملأه شوائب كثيرة ليس أصلها خلافًا بين نظام الكون والعقل، وإنما أصل هذا الاضطراب يعود إلى عدم قدر للعقل البشرى، حتى الآن، حين أخذ بالبحث العلمى فى أسرار هذا العالم أن يبدأ حيث يجب البدء. ولم يقدر لعلمه المحدود أمام قدرة المولى عز وجل أن ينمو نموًا كاملًا ليفهم حقيقة الكون. ولم يقدر له أن يلم بأشتات هذا العالم فيراه جملة واحدة. هذه حدود ثلاثة لم يكن منها مناص، قضى ربنا بها امرا مفعولا بتاريخ التفكير الإنسانى. وهى أصل كل ما فى العلم والمعرفة من اضطراب وعدم يقين، ولولاها لكانت المعرفة اليوم وحدة تامة النظام كاملة الترتيب، شأنها فى ذلك شأن النظام الكونى أزليًا ثابتًا مستقرًا منظمًا، كما وضعه الله سبحانه منذ بدء الخليقة وحتى قيام الساعة، والتى استقرت صورة فى العقل الإنسانى الموحد بالله تعالى. لذلك وجب علينا نحن البشر أن نكشف عن كل جديد فى العلم والمعرفة قدر ما استطعنا وقدر ما يفسح الله لنا من عقل، فليس فى ما نعرفه اليوم ما يكفى لتحديد النظام العام للمعرفة تحديدًا يبين ما هو حق من بين المذاهب المحتملة والممكنة عقلًا (رغم كل الاكتشافات العلمية والكونية والتقدم التكنولوجى، الذى وصل إليه عالمنا المعاصر اليوم)، ثم نرتب أجزاء المعرفة ترتيبًا يطابق الترتيب الطبيعى للقوانين الكونية، فنبدأ بالماديات ونقيم عليها قوانين الحياة العلمية، ثم نقيم على تلك القوانين قوانين الانسانيات والتى من خلالها نستكشف ما هو متفقًا مع نظامها العام الذى يدفعنا إلى الأمام لا إلى الخلف مثلما يفعل بعض سفراء المفكرين.
فبالعلم والمعرفة تتقدم الأمم، لا بالخرافات والوقوف على الماضى، وقد حان الوقت لكى تولى مصر العلم والبحث العملى اهتمامًا أكبر حتى نلحق بالمعاصرة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة