هل وراء كل فن ردىء وكل إعلام غرائزى وفضائحى.. جمهور يريد؟ هل نحن نستحق ما يرسل إلينا من تدنٍّ لأننا من يشجع ومن يقبل ومن يصفق ومن يشاهد ومن يعطى قبلة الحياة لكل ما هو هابط؟ هل حقا الجمهور عاوز كده والدليل أن أعلى نسبة إيرادات فى السينما تأتى من أفلام بلا قيمة ولا فن وصنعت فقط لإرضاء غريزة الجمهور؟ وهل حقًّا «الجمهور عاوز كده» هو ما يمنح بعض من يظهرون على الشاشة بريقًا كاذبًا فتصبح الكلمة العليا لميثاق المال الإعلانى ولا عزاء لميثاق الشرف الإعلامى، فالإعلانات تخطفها نسبة المشاهدة، وبالتالى أصبحت هناك سلع رديئة وغير مطابقة للمواصفات، ولكنها السلع التى يقبل عليها الناس؟ وهل الشعب هو الحارس لكل السلوكيات غير الحضارية أو المتطرفة واللغة المتدنية والتعامل منزوع الذوق والأخلاق؟ هل نحن نستحق ما نصل إليه لأننا فاعل أو شريك أو متواطئ أو سلبى؟ وهل فلسفة الجمهور عاوز كده باطل يراد به فنا والجمهور هو من يضع الأسوأ والأردأ باطل يراد به حق؟ وهل حقا نحن جمهور مريض وهذا ما جناه التعليم والثقافة والإعلام علينا؟
إذا كانت الإجابة عن هذه الأسئلة بنعم ففيها من الدقة بعض الحقيقة وليست كل الحقيقة، لأن العقل الجمعى عقل قاصر غير قادر على الإدراك الكامل يعتمد على الانفعال ورد الفعل اللحظى غير الناضج، فهو كالطفل، وبالتالى عندما يتعاطى فنونا رديئة وسلوكيات على نفس الدرجة من السوء، فالمشكلة فى عقله وليست فى إحساسه والعقل قاصر والغريزة هى من تحركه وضابط الإيقاع والاتزان لهذا العقل يتمثل فى أعمدة رئيسية منها النخبة بمعناها الإيجابى والطبقة المتوسطة التى تمتلك قسطا من الثقافة والتعليم والتمدن والفطرة النقية، وهذه الأشياء هى من ينتج ويصدر للجمهور فإن كان هذا الإنتاج فاسدا فسوف يسير العقل الجمعى وراءه ويعزف الجميع سيمفونية الفساد، وإذا كان راقيا فهو يمنح مساحات الرقى سعة ورحابة، وعلى هذه الاشياء يقاس تحضر المجتمع وأداؤه وسلوكياته، ومادامت النخبة اسما على غير مسمى ومادامت الطبيعة والفطرة ملوثة فالطبيعى أن تنتخب الناس الأغانى المنحطة والسينما الهابطة والإثارة الفجة، ورغم ذلك فعندما تأتى ومضات بسيطة تتيح نوعا آخر من الثقافة والفن والرقى نجد الإقبال عليه، ولكنه إقبال لا يشكل تيارا أو مناخا عاما، وبالتالى يبقى خارج نطاق التأثير.
مسرحية يحيى الفخرانى على المسرح القومى والإقبال عليها ومسرحية روح على مسرح الطليعة وبرنامج صاحبة السعادة لإسعاد يونس ومهرجان الموسيقى العربية الذى يصبح كامل العدد قبل الافتتاح بأسبوع ونوعية الجمهور الذى يرتاد المسارح والأوبرا، تؤكد أن الأعمال الراقية والأخلاقيات الراقية لها أرضية وجمهور، وأن الظواهر التى يعطونها نجومية وشهرة لن ترقى لمكان وقيمة المبدعين الحقيقيين، فليس كل من يمتلك شعبية أو جماهيرية يمتلك مكانة وقيمة، فهناك الكثير من أصحاب الشعبية رصيدهم من القيمة والاحترام صفر، والظواهر الفنية الهابطة مخدرات فنية ولكنها أرحم كثيرا من المخدرات الإعلامية، فالفنان واضح فهو يمثل نموذجا معينا أو يقدم غناء هابطا، وهو يعلن هبوطه دون ادعاء، لكن فى الإعلام تمارس لعبة الخداع الكبرى، فبعض الإعلاميين أكثر هبوطا وأكثر ترويجا لبضاعة الهبوط ويلعبون بغرائز الجمهور وبآلام واحتياجات الناس يرتدون الأقنعة ويتحدثون وكأنهم يملكون رسالة حقيقية وهم منافقون، إنهم المسيخ الدجال وهم يشعلون الحرائق ويصنعون الغضب الشعبى، ثم نقول إن الجمهور مريض.. كيف يكون صحيحيا معافى والمناخ حوله يشع إجراما وأوبئة وجهلا وهبوطا؟