أسامة الزغبى يكتب: جولدن فينجرز

الأحد، 08 نوفمبر 2015 12:40 م
أسامة الزغبى يكتب: جولدن فينجرز قرية ريفية - صورة أرشيفية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
عاد إلى قريته فى دلتا مصر بعد أن قضى بضعة سنوات فى بلاد النفط، كوّن خلالها ثروة لا بأس بها. ولكن لانعدام الفرص الاستثمارية فى بلدنا لأصحاب الثروات الصغيرة والمتوسطة وخاصة فى الريف، فلم يكن أمامه سوى شراء قطعة أرض زراعية كى يبنى عليها منزلا بالمُسلح وهو الاسم، الذى يطلقونه فى الريف المصرى على المنازل الحديثة المشيدة بالخراسانة، تمييزًا لها عن المنازل القديمة التى اختفت بشكل شبه تام الآن. أقام منزلاً من طابقين، خصص الثانى منهم لإقامته هو وأسرته وعندما شرع فى بناء الطابق الثالث نفذت أمواله فتركه عبارة عن أعمدة خراسانية قبيحة شوهت مع أشياء أخرى جمال الريف المصرى. ولكى تكتمل له الوصفة السحرية للرجل الناجح فى الريف المصرى فى الثلاثين سنة الأخيرة من عمر مصر ـ وهى عبارة عن الحصول على مؤهل متوسط يكون فى الغالب دبلوم صنايع ثم السفر لبلاد الخليج وبعد إدخار قدر من المال يعود ويشترى قطعة أرض ويبنى عليها منزلا ـ أقام بالطابق الأول محلين، تمكن من تأجير أحدهما وحول هو المحل الآخر إلى صالون حلاقة وقام بإدارته. عند اختيار اسم للصالون، أشار عليه أحد أنصاف المتعلمين بالقرية وهم كُثر بإسم "جولدن فينجرز".

الاسم باللغة الإنجليزية يعنى الأصابع الذهبية. ولكن لابد لنا هنا من تساؤل، كم من فلاحى القرية يجيد اللغة الإنجليزية كى يعرف معنى الاسم. اعتقد أن النسبة ستكون قليلة للغاية، وحتى إذا كانت هناك أغلبية تجيد التعامل باللغة الإنجليزية، ما هو الهدف والمغزى من وضع اسم بلغة غير لغتنا خاصة فى قرية لا يجيد معظم أهلها القراءة والكتابة؟

شغلتنى الإجابة على هذا التساؤل كثيرًا ولكن مع مرور الوقت وجدت أن هذا الأمر على لا يقتصر على هذه الفئة فقط من أنصاف المتعلمين الذين ربما يظنون أن وضع لافتة بلغة غير لغتهم الأم سيُسهم فى الرفع من قدرهم الاجتماعى، حيث وجدت أن معظم الفئات أصبحت تفعل نفس الشىء. فالأطباء يكتبون تخصصاتهم والشهادات التى حصلوا عليها باللغة الإنجليزية ومعظم المدارس والجامعات الخاصة تفعل نفس الشىء، حتى محلات البقالة الصغيرة فى الأحياء الشعبية لم تنجو من هذا التوجه، كذلك ورش إصلاح السيارات أصبحنا نجد لافتاتها مكتوب عليها أوتو سرفيس، أما عن وسائل الإعلام فحدث ولا حرج، فكثير من أسماء البرامج الموجهة لجمهور لغته الأم هى اللغة العربية أصبحت باللغة الإنجليزية من نوعية كاش أو اسبلاش.

هل بات الشعب المصرى كله يتحدث ويتقن اللغة الإنجليزية؟ هل أصبحت اللغة العربية غير قادرة على إيصال المعانى؟ هل أصبح الحديث باللغة العربية دليلا على تواضع المستوى الاجتماعى؟

لن أضيع وقتكم بكلام مكرر عن جمال وقدرة اللغة العربية فيكفى أنها لغة القرآن الكريم وهى معجزة النبى الكريم لقومه الذين لم يبرعوا فى شىء كبراعتهم فى استخدام اللغة العربية ولكن حين تُلِى عليهم القرآن وجدوا أنه قد طاف بلغتهم لأفاق أرحب وأنه لا تزال هناك قدرات وأسرار كامنة بهذه اللغة لم يصلوا إليها.

قديما قال أرسطو لأحد تلاميذه تحدث حتى أراك، ما يعنى أن اللغة هى أكثر ما يعبر عن الهوية. وفى كثير من البلاد لا يردون عليك إذا لم تحادثهم بلغتهم الأم بل ولديهم فى بعض الأحيان تشريعات تعاقب على وضع لافتات أو إعلانات بلغة أخرى غير لغتهم الأصلية.

تزداد حسرتى عندما أعلم من بعض كتب التاريخ وخاصة تاريخ الأندلس أن اللغة العربية فى العصور الوسطى كانت هى لغة العلم والثقافة الأولى فى العالم وكانت أسر الطبقات المتوسطة يحثون أبنائهم على تعلُمها كى ينهلوا من علوم العرب ومن هنا نشأت حركة الترجمة العظيمة فى مدينة "طليطلة" والتى بفضلها تمكنت أوروبا من بناء نهضتها الحديثة.

إن هجر اللغة العربية وإهمالها على هذا النحو يمثل انسحاقا حضاريا وهو بمثابة أصدق تعبير عن أزمة الهوية التى نحياها فى بلادنا العربية. ولكن للمشكلة فى رأيى بعدا آخر لم يستوف حقه فى الدراسة ويُحجم الكثيرون عن الخوض فيه إما خوفا أو خجلا وذلك للحساسية الناشئة عن كونها لغة القرآن الكريم، ألا وهو عدم تحديث اللغة.

إن اللغة عبارة عن كائن حى يتطور مع مرور الوقت ولكن يمكن له أن يُذبل بل ويموت إذا تم إهماله وعدم رعايته. ولهذا السبب تم إنشاء مجامع اللغات ومهمتها هى الحفاظ على اللغة والعمل الحثيث على تحديثها عبر آليات بسيطة جدا لا يستعصى استخدامها على أقل متحدثيها حظوظا من التعليم. ثم تجد هذه الآليات طريقها للمناهج الدراسية سريعا.

فى المقابل نجد أن مجامع اللغة العربية فى بلادنا لا تقوم بمثل هذا الأمر ووقفت عاجزة عن تعريب الكثير من الكلمات. كذلك لا تزال مناهجنا الدراسية تركز وتحتفى بكل قديم على الرغم من صعوبته. بالطبع أنا لا أدعو بأى حال لهجر القديم ولكن فقط أدعو إلى عملية توازن مع الحديث شعرا أو نثرا مع إعادة كتابة كتب الثراث بلغة اليوم كى يفهمها الجميع. لماذا يتوجب على الطالب عندنا أن يحفظ شعر المعلقات وامرؤ القيس برغم لغتها الصعبة والمقعرة والتى لا يقوى على فهمها سوى أولى العزم من الطلاب وهم أقلية. لماذا لا نتوسع فى تدريس الشعر والنثر الحديث. لماذا لا يجد الشعر العامى مكانا له فى مناهجنا، ولماذا لا تعترف هذه المناهج بشعراء بحجم صلاح جاهين وفؤاد حداد وأحمد فؤاد نجم والأبنودى؟

إذن اختيار نصوص حديثة ذات لغة رصينة ولكنها سلسة وغير مقعرة كى لا ينفر منها الطلاب هى الخطوة الأولى فى هذا الطريق الصعب. ثم يأتى الاهتمام بمجامع اللغة وبحث مشكلاتها وتقديم الدعم الكافى لها كى تقوم بمهمتها فى تحديث اللغة وتعريب الكثير من المصطلحات الأجنبية وخاصة العلمية منها ففى كثير من الأحيان نجد أن بعض المتخصصين يستخدمون مصطلحات أجنبية لا لرغبة لديهم فى هجر العربية بل لأنهم لا يجدون مرادفا عربيا مناسبا لها. وأخيرا يأتى دور التشريعات الملزمة للجميع بوضع اللافتات باللغة العربية كما يفعل أهل اللغات الأخرى وأن يُغرم من يخالف ذلك، وقتها سنجد لافتة " الأصابع الذهبية" بدلا من "جولدن فينجرز".









مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة