تهيمن البحوث والدراسات الكمية على دراسات الإعلام فى مصر والوطن العربى، وتعتمد هذه النوعية من البحوث على الإحصاءات والأرقام وتحليل المضمون والتحليل الإحصائى لاستجابات المبحوثين أو القائمين بالاتصال على أسئلة استمارات البحث، وغالبًا ما يخضع التحليل والتفسير للمعطيات الرقمية الكمية التى تأتى أحيانًا بلا معنى، لأنها قد تعتمد على عينات غير ممثلة للمجتمع، وعلى أسئلة نمطية يجيب عنها المبحوث بطريقة سطحية أو بدون اكتراث، ومع ذلك فإن التقاليد العلمية والبحثية فى مصر تلتزم بهذه الطقوس الكمية التى تنطلق من المدرستين، الوضعية والسلوكية، فى أبسط صورها وأكثرها سطحية.. من هنا تلجأ أغلب البحوث والدراسات المصرية والعربية إلى عدد محدود من النظريات والنماذج المحدودة التى تفترض ثبات الواقع الاجتماعى والاقتصادى وتوازنه، وتبعية الإعلام لهذا التوازن الوظيفى، وضرورة أن يعمل من أجل الحفاظ عليه.
والمفارقة أن أغلب البحوث والدراسات التى تأثرت بالمدرسة النقدية أو بمدارس التحليل الثقافى فى مصر اعتمدت على أدوات كمية فى جمع البيانات وتحليلها، وساد باراديم Paradiem «نموذج إرشادى» يؤمن بأن استعمال تحليل المضمون، أو المقابلات بأنواعها، واستمارة البحث هى من شروط البحث العلمى، ومن ضوابط تحقيق الموضوعية، وبالتالى رفض هذا البراديم «نموذج إرشادى» خروج البحوث والدراسات الإعلامية عن النزعة الكمية التى تحولت إلى شكلانية سطحية تزخر بالأرقام والجداول والرسوم، وتفتقر إلى الفهم والمعنى أو الدلالة. وباستثناءات قليلة، ظهرت بعض البحوث والدراسات العربية فى مجال الإعلام تعتمد على مقولات المدرسة النقدية، أو مدارس التحليل الثقافى، وتحليل الخطاب، وأعتقد أن معظم هذه المحاولات ظهرت فى المغرب العربى، وللأسف ظلت بعيدة عن التأثير فى السيل المتدفق من البحوث والدراسات العربية ذات التوجه الوضعى والسلوكى - الكمى، والتى هيمنت على المشهد الأكاديمى والبحثى فى المشرق، خاصة فى مصر والدول العربية وبرغم هذا القصور فإن «الباراديم» «نموذج إرشادى» الكمى الوظيفى المهيمن فى كليات الإعلام وأقسامه فى مصر ودول المشرق ادعى لنفسه تمثيل العلم والبحث العلمى، ورفض كل محاولات للخروج إلى أفق جديد منفتح على نظريات ومدارس أخرى، بعضها يعتمد على أدوات وأطر نظرية للتحليل الكيفى، وينطلق من نسبية العلوم الاجتماعية، وأن أى محاولة لتحليل الظواهر الإعلامية أو المؤشرات الكمية لا تخلو من تأويل، كما أنها قراءة فى ضوء طبيعة الظاهرة الإعلامية، والإطار الزمنى والمكانى لها. وفى قناعتى إن الباراديم «نموذج إرشادى» الكمى والوظيفى الذى هيمن على المشهدين الأكاديمى والبحثى فى المشرق قد أعاق تطور البحوث الإعلامية، وجعل منها مسخًا مشوهًا يعيد إنتاج نفسه، ومن ثم فشل فى متابعة كثير من الظواهر الإعلامية وفهمها، وإدارك تحولاتها المتسارعة فى عصر العولمة، وثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، والتكامل بينها.
لقد ظل «الباراديم» الكمى السائد يدعى الدقة والموضوعية فى إجراءات تحليل المضمون، ويرفض مدارس التحليل الكيفى، خاصة مدارس تحليل الخطاب، ويعتبر كل البحوث الكيفية هى تأويلات أو شطحات فردية، بالرغم من أن تحليل المضمون أو جمع البيانات اعتمادًا على استمارة المقابلة قد تنطوى على تحيزات وتأويلات، كما أن العينات غالبًا ما لا تمثل المجتمع، وبالتالى لا يمكن تعميم نتائجها.
وأستطيع القول، وبعد سنوات طويلة من العمل فى البحوث الكمية، إن تحديد فئات الشكل والمضمون فى استمارة تحليل المضمون، وكذلك وضع أسئلة استمارة المقابلة، وموقف تطبيق الاستمارة ينطوى على تحيزات لا تقل عن تحيزات تحليل الخطاب أو القراءة السيميولوجية للصور والمشاهد التليفزيونية والسينمائيةرسالتى أنه لابد أن يتواضع «الباراديم» الكمى الوظيفى السائد فى بحوث الإعلام ودراساته فى المشرق، ومن الضرورى أن يراجع مسلماته وفرضياته الأساسية نحو الانفتاح على مدارس وتوجهات نظرية، وممارسات بحثية جديدة أصبحت جزءًا لا يتجزأ من بحوث الإعلام ودراساته فى أوروبا وأمريكا.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة