ولنا نحن بنى آدم أن نستخدمه جهازاً للتفكير دون أن نحاول أن نفهم ماهيته حتى تتم لنا صورة المعرفة كاملة فنضعه منها موضعه الصحيح، ولا يجب أن ننازع فى أن من يستخدم جهاز التفكير هذا (أى العقل) بالضرورة أن يعلم صفاته وخصائصه، وأن جهل كنهه وطبيعته، لذلك كان حتماً علينا أن يبحث بعضنا فى خصائص العقل وصفاته الغالبة من حيث هو جهاز التفكير، وإن لم نعلم كنهه، والعقل لا يطيق الفوضى، ولا يحتمل الفراغ، ولا غنى له عن تجسيم المعنويات، "ثلاث صفات" أساسية لعقل الإنسان، لها أكبر الأثر فيما آل إليه التفكير البشرى، والتدقيق فيها يوضح كثيراً من مزايا وعيوب العقل الإنسانى، وقوته وضعفه أيضاً.
فمن أخص صفات العقل أنه "لا يطيق الفوضى"، فهو يتناول كل ما يعرض له من أمور بالتنظيم والترتيب، ولو أن العقل لم يكن له هذه القدرة ما استطاع أن يطمئن إلى القوى الطبيعية التى خلقها المولى عز وجل من حوله، ولو أنه لم ينظّم حياته طبقاً للقوانين والأديان لاضطربت حياته كلها، والخوف من الاضطراب ومن الفوضى سبب من الأسباب التى دفعت العقل البشرى إلى تنظيم كل ما يعرض له.
والعقل "لا يحتمل الفراغ" وليس معنى ذلك أنه لا يعترف بجهله أشياء بعينها، وإنما يعنى ذلك إلى أن العقل يحاول تفسير كل ما غمض عليه والاتزان العقلى لا يتم إلا من خلال علمه، مهما قل يملأ فراغ عقله كله، لذلك كان حتماً أن تكون المذاهب الدينية والفلسفية كاملة لتحاول كلها تفسير تام لكل ما يعرض على الإنسان.
ومن خصائص العقل أيضاً أنه يحاول جاهداً "أن يجسّم المعنويات" فنراه يمثل معنوياته بشكل يجعلها فى متناول حواسنا العادية (مثل تمثيل الإيمان بالله بالعبادات)، ومن هنا نشأت رغبته أيضاً فى تصوير الجمال، والتغنّى بالحب واختراع الموسيقى، كل ذلك أبرز المعنويات الكامنة فى النفس البشرية وحوّلها إلى صورة حسية.
والواقع أن الإنسان قد لا يكون فى آخر الأمر إلا جهازا، خلقه الله سبحانه وتعالى، يحوّل المعنويات إلى مادّيات تدل عليه وجهازاً يدرك المعنويات فى الماديات التى حوله، ولعل هذا التوضيح يهدى الإنسان إلى استخدام جهاز العقل أولاً، ثم أن يوظفه فى خدمة البشرية والتقدم والتطور، ثانياً؛ دون أن يسىء استخدامه فى تدمير الكون الذى وهبنا الله إياه لنحافظ عليه وننميه.