حفلت السيرة النبوية بالعديد من المواقف التى تؤكد حقيقة أن الإسلام دين عمل وعبادة، وليس عبادة فقط، التى تعد بمثابة نماذج عملية من حياة النبى، صلى الله وعليه وسلم، وصحابته تنير أمامنا الطريق فى الحياة، وترشدنا إلى ما يجب أن نفعله اقتداءً بسنة نبينا، الذى عمل فى صباه راعيًا للغنم، وفى شبابه تاجرًا فى مال السيدة خديجة، ولم يتوقف عن العمل حتى بعد الرسالة، لكى يؤكد لنا أنه مهما كانت الصعوبات التى قد تواجهه فى الحياة، فإنها ليست سببًا لأن تكون عاطلاً تعيش عالة على الآخرين.
لماذا هاجر إلى المدينة بالذات.. هل لأنه لم يجد من يأويه غير أهل المدينة؟.. لا هذا ليس صحيحا.. كانت هناك عدة قبائل لديها موارد طبيعية ومائية تعيش منها ومن الممكن أن تقبل النبى.. لكن النبى أراد المدينة بالذات.. لأنها مجتمع منتج.. مجتمع زراعى منتج.. والنبى كان يبحث عن مجتمع منتج وليس يعيش على الموارد التى عنده دون جهد أو عمل. ثم لماذا سماها النبى المدينة؟.. فقد كان اسمها يثرب، وهو اسم دينى عند العرب، فحول اسمها من اسم دينى لاسم مدنى.. لم يحول اسمها إلى اسم دينى آخر مثل «المحمدية» أو «الإسلامية» ويرفع يافطة دينية، لكنه حولها إلى اسم مدنى: المدينة.. من المدنية أى العمل والإنتاج والانطلاق نحو الحضارة.
يعلمنا النبى، صلى الله عليه وسلم، أن الإنسان المنتج أكثر وطنية وأكثر حفاظًا على تراب الوطن من غيره، لأنه عرق فيها وزرع وبنى عليها، فيستحيل أن يفرط فيها أبدًا؛ لذلك لما حاصر الأحزاب المدينة بعشر آلاف مقاتل فكر النبى أن يعرض على قبيلة غطفان ثلث ثمار المدينة على أن يرحلوا ويفكوا الحصار.. فلما استشار الأنصار لأنهم أهل المدينة.. قال له سعد بن معاذ سيد الأنصار.. أهو الحق يا رسول الله أم شىء تفعله لنا؟.. قال: بل لكم. قال: ما كانوا يطمعون فى تمرة من تمر المدينة قبل الإسلام إلا بحقها.. أيوم نسلم يأخذون ثلث الثمار بلا ثمن.. لا والله.. انظر لقد صار المجتمع المنتج أكثر وطنية وأرضه غالية عليه لأنه تعب فيها.
المُنتج أكثر ثقة فى الله وأكثر عطاءً وأكثر كرمًا وسخاءً، بينما الكسول والعاطل أكثر بخلًا وحرصًا وشُحًّا.. عثمان بن عفان، رضى الله عنه، أخرج كل ماله لله مرتين.. كيف استطاع أن يفعل ذلك!! فعل ذلك لأنه يعرف أنه يقدر أن يرجع ماله مرة أخرى بالعمل ،سلمان الفارسى كان عبدًا لأحد أثرياء اليهود بالمدينة وكان سيده يمنعه من الخروج مع النبى، صلى الله عليه وسلم، فى أى معركة حتى فاته معه حضور غزوة بدر وأحد.. وكان هناك نظام يسمى المكاتبة بمعنى أن يكاتب العبد سيده على مبلغ من المال يدفعه له مقابل الحصول على حريته. يقول سلمان: فكاتبت صاحبى على ثلاثمائة نخلة أحييها له وأربعين أوقية.. فقال رسول الله لأصحابه: أعينوا أخاكم.. فأعانونى فى النخل، فكان الرجل يأتى بثلاثين «شتلة نخل»، والرجل بعشـرين، والرجل بخمسة عشـر، والرجل بعشـر، والرجل بقدر ما عنده حتى اجتمعت لى ثلاثمائة.. فقال لى رسول الله: اذهب يا سلمان، فإذا فرغت فأذنى أكون معك أنا أضعها بيدى.. فذهبت وجهزتها وأعاننى أصحابى حتى إذا فرغت جئته فأخبرته فخرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، معى إليها، فجعلنا نقرب له الودى ويضعه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بيده حتى فرغنا؛ فو الذى نفس سلمان بيده ما مات منها نخلة واحدة فأديت النخل وبقى علىّ المال فأتى رسول الله بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المعادن قال: ما فعل الفارسى المكاتب؟ فدعيت له فقال: خذ هذه فأدِّ بها ما عليك يا سليمان.. فقلت: وأين تقع هذه يا رسول الله مما على؟ قال: خذها فإن الله سيؤدى بها عنك.. فوزنت له منها؛ فو الذى نفس سلمان بيده أربعين أوقية فأوفيتهم حقهم وعتق سلمان وشهدت مع رسول الله الخندق ثم لم يفتنى معه مشهد.
عاش النبى، صلى الله عليه وسلم بالمدينة عشـر سنين، بينما عدد الغزاوت التى غزاها سبع وعشرين غزوة على الأغلب. وإذا حسبنا عدد أيام القتال والسفر والإعداد لهذه الغزوات السبع وعشـرين ستجد أنها فى المتوسط تحتاج إلى عشـرين يومًا فى المتوسط لكل غزوة أى حوالى خمسمائة وأربعين يومًا أى سنة وخمسة أشهر تقريبًا. فأين باقى العشر سنين.. لقد قضاها كلها فى إعمار الأرض والبناء والعمل والإنتاج والتعليم لهذه الأمة.