كنت قد ذكرت فى مقال سابق أن للعقل ثلاث صفات وهى أنه لا يطيق الفوضى، ولا يحتمل الفراغ، ولا غنى له عن تجسيم المعنويات. وبعد تحليل تلك الصفات الثلاث توصلنا إلى أن كل شىء فى الكون هو وسيلة لإبراز قوانين بعينها تتعلق بهذه الصفات .
ولمّا كانت المعنويات (أى تجسيمها فى تمثيلٍ يجعلها فى متناول حواسنا العادية)، توصلنا إلى أن المعنويات هى القوانين الخاصة بالإنسان وحده، وهى وسيلة إبرازها. وسنظل دائمًا فى حاجة إلى إبراز معنوياتنا فى صور حسية مثل العبادات وتصوير الجمال والتغنى بالحب...إلخ
وبالعودة إلى صفات العقل الثلاث الثابتة، تأكد أن هى مصدر قوة الإنسان. إلا أنه ضلّ بها كثيرًا، ولا بد من تقدير هذا الضلال عند البحث والتفكير، وأصل هذا الضلال يرد إلى ما فى علم الإنسان من نقص. فحين تكون الحقائق التى لدى العقل قليلة نراه يضطر إلى تنظيم علمه وملء فراغه وتجسيم معنوياته قسرًا مسرفًا فى ذلك على نفسه وعلى الحق، وهو فى ذلك مسوق بقوة قاصرة تجعله لا يستقر حتى يجد نظاما يرتاح إليه. فإن وجد النظام الحق كان خيرًا. وإن لم يجده فلا مانع من عند الإنسان من اختراع نظم مصطنعة لا تقوم على أساس من الواقع. ومثل الأول نظام الكون الذى وضعه المولى عز وجل، وهو النظام الحق. ومثل الثانى هو نظام الطبيعة والذى يرى بعض الناس أنه هو الحق ولا وجود لله تعالى، وهو نظام الباطل، وأصل الخرافات الإنسانية، فهى عون كبير على ملء الفراغ وتنظيم التفكير حين يكون جهلنا بالنظام الحق الكبير (الذى بدعه خالق الكون الله تبارك وتعالى) وهى عامة فى العصور اِلأولى لكل أمة قبل وبعد نزول الأنبياء والرسل والأديان السماوية.
ولو أن العقل لم يكن مضطرًا بطبيعته التى بيّنّاها إلى الشطط عند الجهل. ولو أنه استطاع أن يكبح جماح نفسه فلا اخترع من النظم الإنسانية شيئًا إلا عند تمام علمه بحقائقه كلها، لاستقام التفكير ولأصبحنا اليوم فى غير حاجة إلى نقض الآراء الكثيرة التى لا أهل لها إلا هذه الحاجة الملحة إلى تنظيم القليل الذى نعلمه، وإلى صنع ما نملئ به فراغ العقل وإن يكن ذلك خيالاً محضاً، كاختراعنا للجن تفسيراً لما لا نعرف له سبب.
وعلينا أن نحسب حساب ذلك كله عند تقديرنا لما أنتجه العقل من حيث هو جهاز التفكير الذى وضعه الله فى أدمغتنا لنبنى الأرض ونعمرها كما أمرنا المولى عز وجل لا نخربها ونملئ عقول من حولنا بالجهل والخرافات كما يفعل البعض هذه الأيام.
* أستاذ الاقتصاد السياسى والمالية العامة – جامعة القاهرة