قبل ما يزيد قليلا عن عشر سنوات بدأت الصحافة الإلكترونية فى مصر تشق طريقها نحو النور، وتدريجيا تحولت العشرات من الإصدارات الصحفية الورقية إلى عالم الويب.. البعض تحول ولديه رؤية واضحة لمستقبل هذه المهنة، والبعض الآخر تحول مجبرا، فلم يراوح مكانه.
ومع استمرار القيود الإدارية والقانونية والتحديات المالية التى تواجهها الصحافة المطبوعة، أصبح الويب هو البديل الفعلى لصحافة حديثة أقل تكلفة وتعقيدا، وربما أكثر تأثيرا فى الأجيال الجديدة من القراء.
ظهور شبكات التواصل الاجتماعى مثّل نقطة فاصلة فى تطورات الصحافة الإلكترونية. الزخم الهائل الذى حظيت به هذه الشبكات بعد دورها الفعال والمؤثر فيما عرف بثورات الربيع العربى، أغرى الكثيرين بأهمية وحتمية توظيف هذا الولوج الضخم من قبل الفئات العمرية الأصغر سنا والأكثر حرصا على متابعة الوافد التكنولوجى الجديد.
برامج الدردشة التى وفرتها الشبكات الاجتماعية الافتراضية، والتى لعبت دورا مؤثرا فى تعزيز حضور الصغار والشباب وفى مرحلة لاحقة الكبار، على خيوطها المتشابكة، كانت حافزا جديدا لصناع الصحافة على ضرورة الاستغلال الأمثل لهذه المساحات الزمنية الكثيفة التى يتواجد من خلالها الجميع على الشبكة.
الربط الذى تم بين شبكات التواصل والمواقع الصحفية الإلكترونية كان هو الهدف الذى استقر عليه صناع الصحافة لتعظيم عوائد وأرباح المواقع الإلكترونية من خلال "جر رجل" قاطنى هذه الشبكات عبر عناوين لموضوعات بعينها، مصاغة بأساليب صحفية لا مكان فيها لأية مواصفات قياسية للعناوين الخبرية بشكلها المعروف فى الصحافة الورقية.
الربط المنطقى المفترض بين العنوان ومادته الصحفية لا وجود له.
العنوان التساؤلى المرفوض فى الصياغات الخبرية الورقية هو الأكثر حضورا هنا.
العنوان الناقص والذى يحتاج من القارئ إلى أن يستكمله بعد دخوله مجبرا إلى موقع الصحيفة لقراءة الخبر، هو واحد من الصياغات الجديدة فى هذا الشكل الصحفى المستحدث.
اللعب فى مضامين العناوين، وتفضيل الإثارة وخداع القارئ بإيحاءات لفظية لا محل لها فى متن الموضوع الصحفى، منهج محبب للقائمين على صياغة عناوين المواد الصحفية المرشحة للربط بين الشبكة الاجتماعية والموقع الإلكترونى للصحيفة.
ليست كل مادة صحفية لديها تذكرة دخول إلى هذه الاحتفالية الافتراضية المقامة على شرف الصحافة ومصداقيتها.. الموضوعات الصحفية هنا يجب أن تحمل طابع الإثارة فى مضمونها، ويا حبذا لو رافقها فى ذلك صورة خارجة أو مقطع فيديو مثير.
هناك قائمة شخصيات بعينها تبدو أكثر جاذبية فى هذا المجال، ويكفى وجودها فى العنوان لأن تحظى مادته بنسبة مرور عالية بين مستخدمى الشبكة.. بإحصائية بسيطة تحتل كيم كاردشيان بقوامها المثير ترتيبا متقدما فى هذه القائمة.. مرتضى منصور وريهام سعيد لكل منهما جمهور لافت.. من بين الإعلاميين يتصدر عمرو أديب وتوفيق عكاشة وأحمد موسى، ولكل منهم اسلوبه الخاص فى اصطياد متابعيه.
كلما توافرت فى المادة الصحفية عناصر الإثارة، كلما كان دخولها سلسا، وحظيت بازدحام مرورى من المستوى الأول بين الوالجين.
التساؤل الملح الآن: كيف يمكن أن تؤثر هذه الممارسات الصحفية المستحدثة على ممارسات الصحف الورقية فى صورتها المعروفة؟ التساؤل يمتد لجوانب مختلفة فى العمل الصحفى، اللغة الصحفية أبرز تجلياتها، مصداقية العمل الصحفى وثقة القراء فى ما تنشره الصحف، وتحرى الدقة والموضوعية فى المعالجات الصحفية، كلها أمور باتت على المحك، وتتراجع تدريجيا.
التراجع فى الممارسات الصحفية الإلكترونية ومن ورائها الورقية، يبدو متناغما مع تراجع مماثل فى ثوابت العمل الإعلامى بشكل عام.
الدولة الغائبة بقصد، تراقب من بعيد دون تدخل فعال، وإن تدخلت فليس الهدف هو ضبط المنظومة، ولكن التحكم فى انفلاتها، وتوجيهه فى المسار الصحيح.
المؤسسات الأكاديمية الإعلامية والمهنيون المتخصصون، مطالبون أكثر من أى وقت مضى بالوقوف أمام هذه التجاوزات قبل استفحالها وتجاوزها مرحلة التهديد إلى التأثير الفعلى فى المنظومة الإعلامية بشكل عام.
• أستاذ بكلية الإعلام – جامعة القاهرة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة