كنا قد قدّمنا فى الجزء الأول من هذا المقال وسائل البرهان على الحقيقة من خلال مذهب التفكير الخرافى والذى تحوّل إلى علوم من خلال الإثبات الرياضى للحقائق الكونية والعلمية الثابتة.
واليوم نكمل هذا البرهان من خلال ضرب أخر من ضروب التفكير الإنسانى وهو "مذهب التفكير الفلسفى الدينى "فلم يهتد الانسان بعد إلى برهان فيه مقطوع بصحته كما هو الحال فى العلوم البحتة. ذلك أن موضوعاته لا تخضع للتجربة والحساب ولابد لها من نوع آخر من البرهان، أما التفكير الدينى فالبرهان عنده "برهان نفسى"، ومقاييس الحق فيه الإلهام والشعور النفسى أن ما يعتقد فيه المرء هو الصواب.
وليس الخطأ أن تتخذ النفس مقياساً للحق فى أمور الإيمان، ولكن بعض الفلاسفة لم يقنعوا بهذا البرهان على الحقيقة الدينية، فهم يقولون أن الشعور النفسى يختلف، وأن أبرز هذا الشعور يقسم على صور مختلفة، ولا يدرى أحد أى هذه الصور يطابق الحقيقة. وهم يرون أيضا أن هذا النوع من البرهان يجعل الحقيقة فى أمور الإيمان حقيقة ممكنة ليس إلا! وعندهم الشعور النفسى لا يمكن أن يكون وسيلة إثبات معقولة ومقبولة للعقل، وأنه لا مفر لنا من برهان من طراز آخر عندما نتناول الإنسانيات بالبحث.
وهذا النوع من التفكير العلمى كما ذكرنا لا يقنع بالبرهان المنطقى المجرد، كما لم يقنع التفكير الفلسفى بالبرهان النفسى المجرد أيضاً. وإذا كان الفلاسفة يميلون إلى الغض من قدر البرهان النفسى فى إثبات الحقائق الدينية لأنها تقوم على المنطق، فإن العلماء يميلون إلى الغض من قدر التفكير الفلسفى لأنه يقوم على المنطق وحده دون الواقع العملى.
ويجب أن نفهم أن الفلسفة لا تنقص من قدر التفكير الدينى، فالواقع أن التفكير فيهما من طبيعة واحدة، كلاهما غائى شامل. والحق أن الدين فى هذا أقوى من الفلسفة، فهو أكثر منها شمولاً، وأقدر على تناول ما نجهل حقيقته، والدين يملئ الفراغ النفسى بما لا تسطيعه الفلسفة، وتجسيم المعنويات عن طريق الدين أكمل وأتم، بل إن الفلسفة لا تكاد تبلغ من هذا شيئاً.
وفى النهاية فالدين والعلم هما طرفا المعرفة. والمذاهب الأخرى كلها إن لم تكن اجتهادات حميدة فهى ما زالت كلها حائرة بين الطرفين.
• أستاذ الاقتصاد السياسى والمالية العامة – جامعة القاهرة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة