أحدثت، وما زالت تحدث، زيارة البابا تواضروس للقدس يوم الخميس الماضى الموافق السادس والعشرون من نوفمبر الحالى، ردود فعل ولغطاً كبيراً خاصة بعد التبرير والتحجج لهذه الزيارة المفاجئة وغير المتوقعة.
فهناك من قال إن هذه الزيارة ليست لزيارة الأماكن المقدسة وليست لهدف التطبيع من قريب أو بعيد، لكنها زيارة لأداء واجب كنسى وطقسى يخص رئاسة البابا لوفد كنسى سيقوم بالصلاة على جثمان الأنباء إبراهام مطران القدس والشرق الأدنى الذى وافته المنية فى القدس والذى أوصى بدفنه هناك ما سيحتم الصلاة عليه فى مدينة القدس المحتلة، إضافة إلى تلك العلاقة الروحية والإنسانية التى تربط البابا والمطران لتزاملهما فى الرهبنة داخل دير الأنباء بيشوى.
هنا فالأسباب منطقية وواقعية ولا غبار عليها، ولكن ما هو الوضع وما هى الآثار المترتبة على هذه الزيارة فى ضوء قرار الكنيسة والمجمع المقدس بحظر زيارة الأقباط للقدس منذ عام 1980 إلا مع إخوتهم المسلمين، حيث كان هذا القرار نتيجة ظروف شخصية بين السادات والبابا شنودة ولظروف سياسية أيضًا، فعقب نكسة 1967 تعذر على الأقباط زيارة القدس، لكن عقب عقد اتفاقية السلام عام 1979 كانت الأجواء بين السادات والبابا شنودة ليست على ما يرام فالصراع بدأ منذ أحداث الخانكة 1972 وتصاعد بعد إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية وبعد إعلان الصيام للأقباط فى مواجهته، ما جعل الصراع بين الاثنين حادًا ومعلنًا، وتوافق مع هذا رفض المعارضة والأحزاب المصرية والعربية لمعاهدة السلام، وبطريقة براجماتية وبذكاء سياسى فى مواجهة السادات قرر البابا والمجمع إصدار قرار فى مارس 1980 بحظر زيارة الأقباط للقدس، رغم أن زيارة الأقباط للقدس أصبحت متاحة بعد معاهدة السلام، فى الوقت الذى كانت فيه المعركة حامية الوطيس بين السادات والمعارضة الرافضة للمعاهدة، فاختار البابا شنودة أن ينضم إلى المعارضة لخلافه مع السادات من جهة ولرغبته فى تأمين الأقباط من رد فعل شعبى كاسح مضاد لهم خاصةً أن المتعاطفين مع القضية الفلسطينية كانت لهم مواقف رافضة لمسيحيى الشرق بعد انحياز حزب الكتائب اللبنانى المسيحى لإسرائيل، وتمسك البابا شنودة بالقرار الذى أعطاه زخمًا شخصيًا عروبيًا حتى سمى بابا العرب، وجاء البابا تواضروس وتمسك بالقرار حتى أصبح القرار شبه ثوابت وطنية مصرية وعربية.
فعلى هذا وحفاظًا على هذا الموقف وذاك القرار، هل كان لابد أن يقوم البابا بهذه المهمة؟ أعتقد أنه ليس من الحكمة أن يقوم البابا بهذه المهمة خاصة أنها تتناقض مع قرار المنع وتفقده مصداقيته بل تحوله إلى قرار تاريخى فاقد الفعل والتأثير فكان يمكن أن يوفد البابا وفدًا من الأساقفة للصلاة، حيث إن وضع مطران القدس بمثابة الرجل الثانى مجرد تقليد وليس قانون كنسى ولا هو من الإنجيل، كما أن الصلاة يمكن أن يقوم بها أى رتبة من قس حتى أسقف، أما العلاقة الإنسانية فلا تجور على القرارات المجمعية، مع العلم أن الأقباط يزورون القدس الآن بلا تحفظ بعد وفاة البابا شنودة، فهل كانت زيارة البابا نظرًا لإسقاط القرار عمليًا وأن الزيارة تتم بشكل عام؟! هل كانت الزيارة نظرًا لتغير الظروف فلا هناك سادات ولا البابا شنودة كما لا يوجد مدًا عروبيًا ولا قوميًا ناهيك عن تراجع القضية الفلسطينية؟! إضافة إلى عدم قناعة الأقباط بالعروبية ولا بالقضية الفلسطينية لأسباب ليس وقتها الآن.
لا شك أن الزيارة أفقدت القرار المصداقية ووصفت تصريحات البابا بعدم زيارة الأقباط للقدس فى موضع التناقض فلا مجال ولا مبرر الآن من منع الأقباط من زيارة القدس حتى لو لم تكن الكنيسة مسئولة عن ذلك، ولكنها المصداقية، فإذا فقدنا المصداقية فأى قدوة يمكن أن نقدمها؟! حمى الله مصر .