اتصل بى الزميل الدكتور أيمن منصور ندا، أستاذ الإعلام بكلية الإعلام، وناقشنى فى مقال الأسبوع الماضى عن أزمة بحوث الإعلام، والحقيقة أننى استفدت كثيرا من ملاحظاته، وطلبت منه أن يكتبها، وقد تفضل بذلك مشكورا، حتى يكون فى نشرها تعميما للفائدة، وأن تكون بداية حوار حقيقى وواسع عن أزمة بحوث الإعلام فى مصر. يقول د. أيمن منصور ندا: أسعدنى الحظ بقراءة مقالكم فى الأسبوع الماضى حول «أزمة بحوث الإعلام» والذى نكأتم به جرحًا غائرًا، لا أقول فى مجال الدراسات الإعلامية فحسب، ولكن فى نطاق العلوم الاجتماعية بصفة عامة.. وقد تفضلتم بالإشارة إلى أن أحد الأسباب الرئيسة لأزمة هذه البحوث يكمن فى سيطرة «الدراسات الكمية»، وفى غلبة «الاتجاه الإمبيريقى» على هذه الدراسات، بما يؤدى إلى نتائج «شكلانية سطحية» تفتقر إلى «الفهم والمعنى والدلالة».. والحقيقة أن أزمة البحوث الإعلامية، هى نتاج ما يطلق عليه البعض «زملة أعراض متزامنة» Syndrome، وأن «الاتجاه الكمى الرقمى» فى هذه الدراسات هو عرض Symptom فى هذه «الزملة»، وقد يكون هذا العرض هو أهونها وأبسطها وأقلها تأثيرًا فى أزمة بحوث الإعلام الراهنة.. ودعنى أشير إلى مجموعة من الملاحظات السريعة التى قد نحتاج إلى مناقشتها بشكل أكثر تفصيلًا وعمقًا فى نقاشات لاحقة:
أولًا: إن الصراع بين «الاتجاه الكمى» و«الاتجاه الكيفى» فى الدراسات الإعلامية كان صراعًا موجودًا فى الغرب فى الستينيات والسبعينيات، ولا وجود له فى الوقت الحاضر.. كان هذان العقدان مليئين بكثير من «الصراعات القطبية» مثل الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية، والشمال والجنوب، والمدرسة النقدية والمدرسة الإمبيريقية.. ولم يكن ظهور المدرسة النقدية ومدرسة فرانكفورت تحديدًا إلا انعكاسًا لتغيرات هذه الفترة.. لقد تجاوز الباحثون الغربيون فى العقدين الأخيرين هذا الصراع المفتعل، وأصبح التلازم والتكامل بين الكم والكيف، بين النظرية ومؤشراتها الإمبيريقية، بين الأرقام المجردة والدلالات الثقافية والسياقية، شرطًا من شروط قبول أى دراسة فى أى دورية علمية «محترمة».. وما قد يعد مفاجأة للكثيرين هو أن الدراسات الإحصائية نفسها لا يتم قبولها ونشرها فى الدوريات العلمية الدولية ذات التصنيف ما لم تكن هناك نظرية أو وجهة نظر متكاملة وراء هذه النماذج الإحصائية.. لقد تجاوز الباحثون الغربيون إطار «التفاضل» الضيق إلى إطارات «التكامل» الفسيحة. ثانيًا: فى العقد الأخير، تم استحداث كثير من النماذج العلمية التى أسهمت بشكل فعال فى تطور الدراسات الإعلامية وتكاملها.. منها على سبيل المثال منهج Q، وأساليب التحليل من المستوى الثانى Meta.. غير أن أخطر هذه النماذج وأكثرها تغييرًا فى مجالات بحوث الدراسات الإعلامية هو Bayesian Analysis.. وهو تحليل يقضى على فكرة الأرقام المجردة، ويصل إلى بناءات نظرية وثقافية أكثر دقة وملاءمة لطبيعة البحث الاجتماعى.
ثالثًا: اتساقًا مع هذه التغييرات فى بنية البحوث الاجتماعية الغربية، فقد تم الانتقال من مفهوم دراسة «الإحصاء» Statistics بما فيها من نماذج رياضية عامة ومجردة، إلى دراسة Econometrics، وهى أساليب يتم تطبيقها على كل ما يشكل سلوكًا بشريًا.. وأصبحت هذه الأساليب هى ما ينبغى على طلاب الإعلام والدراسات الاجتماعية تعلمه وتطبيقه.
رابعًا: إن أزمة بحوث الإعلام فى مصر، ودعنى أستعير تعبيركم الذى سمعته منكم، هى أنه تم تجميد مناهجها وأدواتها وأطر التفكير فيها منذ نهاية السبعينيات.. وكما تم غلق باب الاجتهاد فى الفقه، فقد تم غلق باب التواصل مع معطيات العصر المنهجية والتطورات التى حدثت فى مجال المناهج منذ منتصف الثمانينيات.. وأكاد أزعم أننا فى مصر فى مجال الدراسات الإعلامية لا نزال نستخدم تليفون «جراهام بل» ونعتبره الأفضل ولا نعترف حتى الآن بما أحدثه «ستيف جوبز» فى مجال التليفونات الذكية.. لا نزال نستخدم مناهج بحث «بالمنافلة» فى فترة حدثت فيها ثورة شاملة فى طرق تحليل البيانات وفى أساليب التوصل إلى استنتاجات بشأنها.. لقد حافظ الباحثون فى مصر على شكل الدراسات الإعلامية ومناهجها وأساليبها كما تركها لازرسفيلد ولازويل وليفين فى الثلاثينيات والأربعينيات، كنوع من الأصالة التى تخلى عنها الباحثون الغربيون!!!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة