ما الذى يحدث فى بر مصر، وفى ميادينها، وفى ذوقها، وفى تعاطيها لفن النحت؟، هل تطور هذا الفن بصورة لا يعرفها سوى صانعى تماثيل الميادين الغريبة، أم أصبحت الإساءة والمبالغة فى البشاعة إبداعًا لا يعرفه سوى موظفى المحليات، أم هل أصبح نشطاء الـ«فيس بوك» يعرفون أكثر من دارسى الفنون الجميلة، إذ يتنبهون للبشاعة ويسخرون منها، أم أن الحالة السيئة التى يعانى منها البعض تنعكس على أعمالهم، وتعكس رؤيتهم الرديئة للحياة والجمال؟.. هذا التشويه مسلسل لا ينتهى، كان آخره صورة تمثال بمطار القاهرة أطلق عليه نشطاء الـ«فيس بوك»: «تمثال مصر المحروقة».
هذه ليست المرة الأولى، فما حدث فى تمثال «نفرتيتى» ليس ببعيد، وما جرى على تمثال عملاق الأدب العربى عباس محمود العقاد فى أسوان لا يتخيله عاقل، أما تمثال عروسة البحر فى سفاجا فيفتقد لكل مقاييس الجمال التى يعرفها الإنسان العادى الذى يعتمد فى تذوقه للفن على انطباعه الذاتى، وهذا التشويه المتعمد والمقصود يجب التصدى له، فوجود تمثال غير جميل فى مكان عام يعد كارثة ثقافية وجمالية بكل المقاييس، لأنه سينتج جيلًا من المشوهين فنيًا.
هذا التخريب الذى يحدث فى ميادين مصر لن تجد له تفسيرًا واحدًا يصدقه عقل، ولو توقفنا لندرك السبب وراء هذا القبح، فستجد أنه يكمن فى جملة واحدة هى «ليس هناك تنسيق بين الجهات المعنية فى هذا الشأن»، فلو سألت قطاع الفنون التشكيلية فى وزارة الثقافة سيخبرك بأنه قدم مبادرة للتنسيق مع المحافظات المختلفة، لكنه لم يحدث شىء، ولو حاولت أن تعرف اسم الفنان الذى صمم هذا العمل سيكون السراب هو ما تحصل عليه، أما لو فكرت فى معرفة المسؤول الذى اختار هذا العمل لوضعه فى هذا المكان المهم والحيوى ستجد جدارًا صلبًا من التعتيم.
لكن أن يصل هذا الاستسهال إلى مطار القاهرة، فهو أمر خطير على المعنى الثقافى والسياحى، فالسائح القادم لمصر وفى ذهنه صورة متخيلة عن الفن الفرعونى والقبطى والإسلامى العظيم للمصريين سيصاب بصدمة لن تتركه بسهولة عندما يجد أمامه فى المطار، وفى الميادين عكس ما كان يتخيله عن قدرة المصرى على الإبداع، وصناعة الفن.
الجانب الثانى والأهم يكمن فى الخطر الذى يهدد الجيل الصاعد من الفنانين التشكيليين الذين سيرون هذا التشويه، ويرون كيف يحتفى به بوضعه فى الميادين العامة، بينما أعمال النحاتين العظام مهملة فى المخازن، حينها سوف تتغير طريقة تفكيرهم فى العمل الجاد.. سيسقطون فى صناعة المشوه والردىء، ويتنافسون على «التافه»، كما ستتم صناعة وعى كامل لأطفال يمرون كل يوم فى هذه الميادين، سيفسد ذوقهم ومفهومهم عن الجمال، ويصبحون ضحية صمتنا، وسنجد بعدها من يخرج علينا ليتحدث عن علاقتنا بأجدادنا، ويسأل: هل نحن حقًا أحفاد الفراعنة؟!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة