كان د. إبراهيم بدران والشيخ الشعراوى حبيبين وصديقين وكان يجمعهما صفاء النفس ورقة الطبع والثقة بالله ومحبة خلقه فتلاقت أرواحهما فى الله وهما أحياء ولعلهما يلتقيان الآن فى الجنة. ولما كانت «عين» د. إبراهيم بدران على المرضى وخاصة الفقراء منهم خلد الله ذكره، فقد كان المريض جل همه، وشفاؤه من مرضه أعظم عنده من مناصب الدنيا كلها، ولما كانت «عين» الشيخ الشعراوى على الدعوة والهداية وليس على السلطة خلد الله ذكره وأبقى أثره. واليوم نحن نعيش مع أقوام ودعاة عيونهم على السلطة والمناصب وليست على الدعوة والهداية أو خدمة الإنسان البسيط، ولذلك لا تجد لهم أثرًا حتى وهم أحياء أو حتى وزراء، فهناك من يزين الكرسى الذى يجلس عليه ويضيف إليه وآخرون لا قيمة لهم إذا فقدوا هذه الكراسى. وقد حكى د. إبراهيم بدران أن د. عبدالعزيز حجازى رئيس الوزراء المكلف فى السبعينيات طلب منه أن يكون وزيرًا للصحة فرفض بشدة فقال له: تعال نتفاهم ثم أرفض بعد ذلك كما تشاء فلما ذهب إلى هناك كانت كل الصحف والقنوات التلفزيونية وقتها فى انتظاره فصورته فلما هم بالانصراف قال له عبدالعزيز حجازى لقد تم الأمر وأصبحت وزيرا وكل الكاميرات صورتك والنشرات أذاعت الخبر فلا مناص يا دكتور فأصبح وزيرًا رغم أنفه كما دخل كلية الطب رغم أنفه بناءً على رغبة والده ضابط البوليس الذى أصيب بالشلل فجأة على إثر صدمة نفسية مروعة بعد مقتل 12 ضابطًا من زملائه فى يوم واحد.
كان د. بدران يكره السياسة ويرى أن النزوات والصراعات السياسية هى السبب الرئيسى فى تخلف مصر، وكثيرًا ما وجه نصحه للساسة وأهلها قائلًا: «غيروا ما فى أنفسكم، حتى يغير الله ما بمصر، وتوقفوا عن العناد والمكابرة، ضعوا مصر أمامكم، فالتاريخ لن يرحمكم. لقد أعطتنا مصر الكثير، ولكنها لم تأخذ منا شيئًا سوى الضياع حتى الآن».
كان د. بدران واحدًا من اثنى عشر طفلًا أنجبهم والده فى الثلاثينيات من القرن الماضى.. مات منهم ستة بالأمراض التى كانت على عهدهم وكانت تحصد آلاف الأطفال سنويا ومعظمها يعالج الآن بمنتهى البساطة واليسر فى أصغر عيادة مثل الحصبة والالتهاب الرئوى والنزلات المعوية وغيرها فلطف الله بأسرته وبمصر وأبقاه ليكون من أعظم علمائها وكرمائها وزهادها وحواريها.
مر د. بدران بأكبر محنتين فى حياته أولاهما موت ووفاة ابنه فى حادث أليم، وثانيهما حرق المجمع العلمى الذى كان يعتبره ذخيرة من ذخائر مصر العلمية.
وقد بكى د. بدران المجمع العلمى الذى كان عضوًا فيه كما بكى ابنه، فكلاهما غال عليه، ومن عجيب الأقدار أن العلامة المصرى العالمى د. محمود حافظ عالم الحشرات الرائع وعالم اللغة العربية الفذ ورئيس المجمع العلمى توفى فى نفس اليوم الذى حرق فيه المجمع العلمى، وكأنه أبى أن يعيش بعد حرقه أو يعيش بدونه. ولم يسترح د. بدران ويطمئن قلبه على المجمع العلمى إلا بعد تفضل الشيخ سلطان القاسمى أمير الشارقة ببناء المجمع العلمى المصرى من جديد على مساحة أكبر وتقنيات أحدث فى مدينة 6 أكتوبر. لقد كانت لحظة حرق المجمع العلمى صعبة جدًا على عالم عظيم مثل د. بدران، ولك أن تتأمله وهو يحكى ألمه وقتها: «كنت أرى الحريق فى التلفزيون ولم يكن بيدى حيلة، فأنا رجل عجوز أنهيت رسالتى فلم أجد سوى البكاء على هذا المبنى صاحب الـ 200 عام و291 ألف مجلد». كرمت الدولة د. بدران كثيرًا ولكن حب المصريين له هو أعظم تكريم وحدب النفوس والتفاف القلوب حوله أعظم من أى وسام ودعاء المرضى الفقراء له أكبر من أى منصب.
لقد كان د. بدران يحصل على مرتب قدره ستون جنيها وهو حاصل على الدكتوراه فى الجراحة ويعمل مدرسًا للجراحة فى القصر العينى، وكان راضيًا بذلك، قانعًا به، يشغل معظم ليله ونهاره فى المستشفى، علاجًا للمرضى، وتعليمًا للطلاب، وأرجو أن يتأمل ذلك بعض الأطباء وأساتذة الطب الذين يعتبرون المريض بابًا للاستغلال والتربح. لقد كان د. بدران يكرر دومًا أن قيمة المواطن والمواطنة قد اهتزت كثيرًا فى مصر والوطن العربى، ولا أمل فى الإصلاح إلا بعودتها، وعودة دور الأم والأسرة فى التربية. وكان يرى ضم كليات التربية إلى الجيش ليتعلم المدرسون ثم الطلاب الانضباط والجدية والرجولة بدلًا من كل هذا العبث الذى يحدث فى التعليم.