د.أيمن رفعت المحجوب

بين الدين والخرافة ..

الخميس، 24 ديسمبر 2015 10:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
من الثابت عند الأقدمين أن التفكير العلمى يبدأ بالتفكير الخرافى وينتهى إلى علوم مدارها السببية، وهى فى أكمل حالاتها تبدأ بأوائل الأمور وتنتهى بأواخرها، وهذا المذهب هو دائم النمو مع تطور البشرية والاستنتاجات العلمية المتتابعة.

وتظهر التفاصيل العلمية فى كل شىء لتزيد فى بيان ما هو صحيح وما هو خطأ، وقد تقضى أصغر التفاصيل على أكبر النظريات العلمية شيوعا، على أنى لا أرى أن هناك ما يدعو إلى التقديس الذى أصبغه العصر الحاضر على هذا النوع من التفكير، وليس لنا أن نتجاهل بأى شكل من الأشكال غيره من عموم المذاهب الفكرية الأخرى، ولا نزاع أن له على المذاهب الأخرى أفضلية وسهولة إثبات قضاياه وصدق البرهان عليها، ثم أن قوانينه مطردة، والاستثناء فيها غير مقبول إلا فى حالات نادرة. وخير ما فيه أن المعقول فيه يوافق الواقع الحتمى، وبذلك يكون الحق فيه أيضاً واضحا وضوح الشمس، ولكنه يظل ليس وحدة التفكير الطبيعى الوحيد فى الكون.

لأن الخرافات التى تتحول إلى علوم، ما هى إلا مذهب طبيعى أول، أما مذهب التفكير الطبيعى الثانى يمتد إلى "مذهب الفلسفة الدينية"، وهو والحق مذهب غائى شامل يبدأ بأواخر الأمور ويفسرها تفسيرا كاملا، وهو مذهب يضيق بالتفاصيل، ويزعجه البحث الدقيق فى ما هو واقع فعلا، وهو يعد قضاياه حقا مطلقا، إذا وافقها الواقع، فالواقع صواب، وإن خالفها فالواقع خطأ إلى أن يصوبه التأويل. ومن آثار هذا المذهب الدين والأخلاق والفلسفة الاجتماعية. والمحدثون الذين بهرتهم العلوم الطبيعية يميلون إلى التهاون بهذا المذهب، وقد لا يكون على حق فى ذلك، لأن وجهة الصواب والخطأ فيه تقوم على الإيمان واليقين بوجود الله عز وجل، وليس على حقائق مادية ملموسة كالعلوم الطبيعية، ومعايير الحق فيه مختلفة القياس، وفى أكثر أنظمته اختلاف واضح وأن تكون كلها معقولة ومقبولة فى التفسير، على أن الأمر ليس أمر مفاضلة بين المذهبين أو أيهما أقرب إلى الصواب. فالواقع أن كليهما طبيعى فى العقل البشرى، وكلاهما له أكبر الأثر فى تكوين الصورة الذهنية التى تكونت عليها المعرفة الإنسانية الأمس واليوم وغدا، وكل منها له موضع فى هذه الصورة التى لا تتم بدونهما معاً عند اكتمال الإيمان واليقين.

فإذا كان "المذهب الخرافى العلمى" هو تحقيق العلاقات القائمة بين الأشياء، فهو ينظم هذه العلاقات تنظيماً معقولا، ولكنه يقف عاجزا على تفسير البحث فى الكائنات الحية، والإنسانيات، والمعنويات والخلق والضمير والجمال. فإن الإنجاز والتحقيق العلمى للعلاقات فى هذه الأمور يصبح عسيرا جدا إن لم يكن مستحيلا، ولذلك يأتى "مذهب الفلسفة الدينية" ليملأ هذا الفراغ، ولا غنى لنا عنه وإن كان ميدانه يضيق شيئاً فشيئا. والحق أننا لن نجد مذهباً من هذين المذهبين الكبيرين نقياً من آثار المذهب الأخير. "فالخرافى العلمى" يلجأ فى كثير من الأحوال إلى اختراع نظم وفروض لا يبررها إلا الرغبة فى ملء الفراغ فى الواقع أو النظريات العلمية، "والمذهب الفلسفى الدينى" يلجأ كثيراً إلى تناول أمور تفصيلية ليس من طبيعته أن يتناولها فيضل بها كثيرا، ومن هذا الخلط نشأ كثير من الاضطراب والتفكك فى التفكير الإنسانى.

وفى النهاية يجب أن نؤكد أن اختلاف مذاهب التفكير لا يمنع من وصولنا إلى حقيقة الأمور مكيفة بهذا الجهاز العقلى الذى منحنا الله إياه، وعلى هذا يصبح البحث عن الحقائق أمراً مستطاعاً على النحو الذى يتيسر للعقل المتعلم، وكما قال رب العزة فى كتابه الكريم "إنّما يخشى الله من عباده العلماء" صدق الله العظيم.

•أستاذ الاقتصاد السياسى والمالية العامة - جامعة القاهرة.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة