"اقتربت عقارب الساعة من الثانية عشْرة، لتتبقى دقائق معدودات على بداية عام جديد. وبينما الصمت يسود، وأعين الحاضرين متعلقة بتلك العقارب فى انتظار ظنه البعض أنه امتد إلى دُهور! جال فكره فى تلك الحياة التى يمضى فيها لاهثـًا، لا يدرى أكان يحيا فيها أم أنها تنساب من بين يديه؛ ليجد نفسه ذات يوم يقدم كشف حساب عنها. انتبه من شروده وأفكاره على صوت صيحات استقبال العام الجديد! ونهض ليمضى فى طريقه، ليبدأ عامـًا قرر أن يكون جديدًا ..."
يستعد كثيرون فى هٰذه الأيام لاستقبال العام الجديد. وبينما هم يَخطون نحو بداية جديدة، تظل أفكار أكثر البشر وأساليبهم كما هى: دون تغيير أو تعديل.. وهٰكذا تصبح البداية الجديدة هى انتقال من قديم إلى قديم! لذٰلك أدعوك، قارئى العزيز، أن تتريث قليلاً، وتبدأ عامـًا جديدًا بتجديد الفكر، ربما يقودك إلى سعادة أعمق فى الحياة. وإليك ما أعنى.
جذب انتباهى قصة واقعية قرأتُها عن إحدى السيدات لم تكُن تحمل أى ملامح للجمال، بل كانت ضخمة طويلة، لها وجه قبيح، بل مخيف! ذهبت تلك السيدة إلى مكتب محاماة؛ وما إن رآها المحامون حتى خلا المكان! إلا من فتاة اضطُرت إلى استقبالها، مع قلقها الواضح منها. وبدأت المرأة حديثها فقالت: أعلم ما تشعرين به! ولٰكن أرجو منك ألا تحكمى بما ترَين من مظاهر! فإليك قصتى؛ أنا سيدة لم أتزوج حتى بلوغى الأربعين من العمر، إذ كان الرجال يَنفِرون منى. وذات يوم، قدَّمت إلى جارتى عرضـًا بالزواج من مقاول أرمل لديه أربعة أطفال، وكان له شرطان: أن أخدُم أطفاله، وألا يكون لى طلبات كزوجة! فوافقتُ وتزوَّجتُ!! وفى أثناء سنوات طويلة، رعَيت أطفاله بحب شديد، وأنا أشعر أنهم أبنائى، حتى شعَروا بأننى أم لهم يحبونها ويقدرونها. وفى تلك الأثناء، ازداد نجاح زوجى فى عمله وازدادت معه ثروته، وبدأ يحمل لى حبـًّا وتقديرًا ومعاملة كريمة. وقبل فترة، مات زوجى تاركـًا لى ثروة تقدَّر بالملايين، ولم يعترض أبناؤه على ذٰلك! إلا أننى أتيتُ اليوم لأعيد إليهم أملاكهم!!
وبينما هى تنتهى من كلماتها، قدَّمت من الأوراق ما يُثبت صحة روايتها!! وساد صمت عميق، لم يقطعه إلا كلمات الفتاة للسيدة، وهى تحمل لها إعجابـًا وحبـًّا عميقين: أليس من الأفضل لكِ أن تحتفظى ببعض هٰذه الممتلكات تحسُّبـًا للزمن؟ أجابت: لا! يكفينى حب أبنائى! هٰذا إلى جانب أننى أثق بالله الذى ملأ حياتى بهٰذا الحب، فهو لن يتركنى فى زمن الغدر، بل يملأ حياتى برحمته وستره! وهٰكذا تم لها ما أرادت، وتركت وراءها نَسَمات من الحب والإعجاب والتقدير.
عزيزى القارئ: كثيرًا ما تكون أحكامنا على الأمور والأشخاص بما نراه، الذى غالبـًا ما يكون غير معبِّر عن واقعها؛ فإن هناك من البشر من ترى فيهم الرقة وهم أبعد ما يكونون عن ذٰلك، وهناك من ترى فيهم القبح وهم أرق مما تدرك ! هناك من الأمور القاسية ما تؤول إلى خيرك، ومن الأمور المبهجة ما تدفعك إلى الفشل! فقط: توقف مع بَدء عام جديد، ودَعْه يكون عامـًا للعمق، تسعى لأن ترى كل مَن حولك مِن بشر، أو ما يحيط بك من أمور، بعمق وعدل ؛ فلا تحكم بحسب الظاهر، بل احكم حكمـًا عادلاً!
كل عام وجميعكم بخير .
• الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة