بهذا الفهم، وذلك التعليق على ذلك الفعل الإلهى، يسوف كثير من الناس أمر هدايتهم ويخدرون ضمائرهم ويسكتون أنفسهم اللوامة بتلك الحج.. لما ربنا يهدى.. وماذا فعلت ليهديك؟ وهل أخذت بأسباب الهداية؟ هل سلكت سبلها؟ والأهم هل فهمت أصلا معانيها؟ هذه هى للأسف أهم الأسئلة التى قليلا ما يسأل المرء منا نفسه عنها!!
للهداية سبل وأسباب وطرق، ولها معانٍ وأقسام لابد أن تدركها لتستطيع التفريق بين ما هو بيد الله وحده وما هو كسبى للإنسان دور حاسم فيه، لقد أُثبتت صفة هداية الغير للنبى فى موضع ونفيت عنه فى موضع آخر، أُثبتت فى قول الله: «وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم» (سورة الشورى) ونُفيت فى سورة القصص فى قوله تعالى: «إِنَّكَ لا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين» ولا يوجد تعارض بين الأمرين ببساطة، لأن الهداية هدايتان، هداية إرشاد وتوجيه ودلالة إلى الخير وصراط الله المستقيم، وتلك هى المثبتة للنبى وإخوانه الأنبياء، ثم من سار على نهجهم، وتلك التى رفضها أهل الباطل دومًا وقالوا: «أبشر يهدوننا»، وهناك هداية أخرى وهى بمعنى شرح الصدر للحق والتوفيق للخير وقبول تلك الدلالات والإرشادات، وهذا النوع هو ما لا يملكه مخلوق ولا يطلع على وجود استحقاقه فى نفس المخلوق إلا الله الهادى سبحانه وتلك التى ينبغى للعبد أن يفتقر ويضرع لربه داعيًا أن يرزقه إياها، المشكلة أن هذين النوعين يختلط أمرهما على كثير من الناس فيظن أن المسألة ليست كسبية مطلقا وأنه لا يوجد أدنى تكليف أو دور عليه وبالتالى يستريح ضميره ويرجئ الأمر ويسوفه متحججا بذلك التعميم والإطلاق لهداية التوفيق التى لا يملكها إلا الله.
والحقيقة أن ربنا لا يظلم أحدا، ومعاذ الله أن يكون الأمر عشوائيا وإلا كان اتهاما ضمنيا لله بالهوى، وحاشا وكلا، هناك أسباب وعوامل استحقاق، ولقد وعد الله هذا المخلوق- الإنسان- فى بداية الحياة على هذا الكوكب بأنه إذا اتبع هداية الدلالة والإرشاد التى ستأتيه فإن الله سيعطيه هداية التوفيق والسداد «قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّى هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى» (سورة طه)، من اتبع الهدى الذى يرسله الله فلن يضل ولن يشقى.. واضحة حاسمة قاطعة.
فى المقابل «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى» هو الذى نسى.. هو الذى أعرض عن الذكر.. هو الذى تغافل عن الآيات وتعامى عنها. صحيح أنه لم يكن أعمى البصر لكن بصيرته كانت هى الضريرة باستحبابه العمى على الهدى تماما كما فعلت ثمود «وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» (سورة فصلت 17) هم الذين استحبوا العمى وكرهوا الهدى وأعرضوا عنه فحرموا من تمامه ولم يبصروا نوره، وكذلك فعل كل من أعرض ونسى وتغافل فلا يلومن إلا نفسه إن لم يهتد، وبدلا من تخدير نفسه بمسكنات التسويف فليبحث عن السبب من بين أسباب حجب الهداية التى ذكرها الله فى كتابه «وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى كَيْدَ الْخَائِنِينَ» يوسف 52 «إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ» الزمر 3.
«إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ» غافر 28 «وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» البقرة 258 «وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ» المائدة 108 «وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ» البقرة 264. كل هذا وغيره من البيان القرآنى المتكرر والمفصل للأسباب والعوامل المانعة عن الهداية وتجدهم يتساءلون بسذاجة مصطنعة وتكلف متنطع: لماذا لا يهدينا الله؟! ثم يعلقون قرارهم وقبولهم بتلك الجملة المخدرة المريحة، جملة: «لما ربنا يهدى».
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة