تعلمنا منذ نعومة أظافرنا أن (المعارضة) صفة قبيحة لا يتصف بها الأطفال الحلوين أو العيال اللى تفرح.. تربينا على أن (حاضر) هى أجمل كلمة يمكن أن نقولها لماما وبابا وللمدرس وللبواب إذا لزم الأمر.. حتى لو كانت(حاضر) بلا فهم أو وعى أو رضا.. حتى لو كانت بالإكراه أو تحت ضغط السلطة الأبوية أو المدرسية أو التربوية وكأن (حاضر) نتيجة طبيعية لصغر السن وضآلة الجسد وقصر القامة.
تعلمنا بالتبعية عدم التفكير فى معظم الأوامر والتوجيهات فما الداعى للتفكير إذا كنت عيل متربى من أبناء (حاضر) وهل يمكن أن تتحمل الأعباء النفسية ونظرات الأهل القاسية وكلماتهم الباردة لو فكرت ووصلت لنتيجة (لا) .. تفهم إيه أنت يا عيل يا أهبل يا متخلف يا عبيط عشان تقول لا و تعارض بابا أو ماما.
وعلى هذا الأساس تم بناء البذرة الاجتماعية الأولى لمجتمعنا المنيل بستين نيلة ومازلنا نلعب نفس الدور مع أبنائنا حتى الآن !!. حيث انقسم البيت لسلطة تربوية تظن أن دورها الوحيد هو التوجيه وإصدار الأوامر بحكم أنها الأكبر والأقوى ولفئة العيال المتخلفة التى تقول حاضر بلا فهم ولا تمييز.
وأعطت السلطة التربوية نفسها الحق فى انتزاع حق التفكير وظنت أن كل ما تأمر به هو الصواب على حين خاف الأطفال تكرار العقاب على كلمة لا أو التوبيخ على المعارضة فأراحوا أنفسهم وأراحوا أهاليهم وتوقفوا عن التفكير وأصبح شاغلهم الشاغل هو استقبال التوجيهات والأوامر وهز الرأس بالموافقة والرد بحاضر.
الغريب أن كلمة حاضر ارتبطت بالتلاميذ الشاطرة لأن سمة التفوق فى التعليم المصرى هو حفظ المقررات التعليمية وليس مناقشتها أو فهمها أو نقدها، فالسلطة التعليمية لا تؤمن بأى نقد أو نقاش لأن ما تقوله هو الصواب كله حتى لو نقلت التاريخ بشكل مزيف أو رددت نظريات علمية مغلوطة . لذلك أصبح التعليم فى مصر هو التطبيق الحرفى لقوله سبحانه وتعالى ( مثل الحمار الذى يحمل أسفارا) .
ولأن البذرة الأولى للمجتمع تكبر ففى مرحلة التوظيف تجد المدير يتعامل مع الموظفين كما يتعامل المدرس مع التلامذة باستخدام نفس السلطة فى أنه يملك كل الصواب و على الموظف أن ينفذ و يقول حاضر بلا تفكير أو تبرير أو اقتناع. لذلك لم يتغير شىء فى الموظف المصرى من أيام الفلاح الفصيح الجالس القرفصاء أمام الفرعون .
فهو يشكو فقط و يندب حظه ولكنه لا يملك الجرأة أو القدرة على تغيير أى شىء، وبالمناسبة جلسة القرفصاء لا تنم عن هيبة أو حكمة كما يظن البعض ولا كان هذا الفلاح الفصيح يستطيع حتى أن ينظر للفرعون أو يراه.
الموضوع كله كان من وحى الفنان القديم الذى كان يتخيل الجلوس أمام الفرعون ليشكوا له من موظفى الدولة الذين "طلعوا ميتين أهله"، والشكوى هنا بهدف الاستعطاف وطلب الرحمة وليست معارضة تطالب بمحاسبة المقصرين أو نفخ الظالمين، فالمعارض صفة غير بريئة ارتبطت بتكدير الأمن والسلم العام وتخريب البلاد والخروج على الحاكم أو تقليل شأن الأب والتطاول عليه أو الاستهانة بالمدرس وبقدسية التعليم أو إهانة المدير وتحطيم هيبة الإدارة العليا.
المعارضة بكل أشكالها قبيحة كئيبة لذلك فمصير كل المعارضين منذ عقود كان النفى أو السجن أو التشويه ولائحة الاتهامات جاهزة إما الخيانة أو العمالة أو الكفر، لذلك لا تتعجب حينما يتبارى و يتنافس أعضاء مجلس الشعب فى تأييد الرئيس ولا تستعجب حينما يصبح الوزير مثل الآلهة المقدسة فى الوزارة أو حينما تعود أوجه الفاسدين فى فخر بعد أن اختفت لوهلة عن الصدارة، لا تندهش من أى شىء فى مجتمع تربى على كلمة حاضر ولغوا من قاموسه الفكرى كلمة لا وجعلوا مصير أى معارض منذ الطفولة التنكيل.