وسمى الأدب بذلك لأنه يؤدب الناس إلى المحامد وينهاهم عن القبح، ولا شك، أن اتفقت مع هذا التعريف اللغوى، فأنه لا يتمشى تماما مع ما نريده ونعرفه من الأدب المسمى بالإنجليزية LITERATURE) ) لأن الذى يؤدب الناس ويدعوهم إلى المحامد وينهاهم عن القبح المباشر، إنما هو علم "الأخلاق" وليس علم "الأدب" ولا يؤاخذنى أساتذتنا الأدباء إذا قلت إن الأدب، أدب اللغة، لم يكن من إثارة الدعوة إلى تلك المحامد المباشرة، بل قد يكون ذلك بالواسطة لأن الأدباء فى كل زمان ومكان لم يكن فى سلوكهم من التحرج ما للأخلاقيين الذين قد لا يعرفون مع قطع الأدب شيئاً كثيراً، ولم يقرأوا خزانة الأدب للبغدادى أو رسالة الغفران للمعرى، ولا الكامل للمبرد، ولا الجمهرة ولا دواوين شعر المتنبى أو شوقى ولا ثلاثية نجيب محفوظ ولا كلام الخطباء أمثال مصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول.
أعى أننا بإطلاقنا الأدب على هذه الماهية التى فى أنفسنا منها صورة ما، تناسباً بين اللفظ والمعنى فى اللغة الفرنسية لأن لفظ الأدب عندهم مأخوذ من لوازم معنى الأدب وهوlettre) ) حرف الهجاء، أما عندنا نحن العرب فى لغتنا العربية فإن معنى الأدب "التعليم"، "أدّبه" أى "علّمه" بالإطلاق، فالذى علينا هو أن نقيد هذا الإطلاق بالقيود التى نأخذها من اصطلاحنا، فيما يتعلق بمعنى الأدب الحقيقى الذى نريد التعبير عنه، أهو أدب العلم، أم أدب الأخلاق.
وعلى ما تقدم يمكن رسم الأدب بأنه مجموع الآثار الجميلة من النظم والشعر والقصص والتاريخ والموضوعات العلمية الجافة فى زمن بعينه أو فى حياة أمة بعينها، فالأدب بالنسبة للموضوعات الكتابية أو الخطابية كالفنون الجميلة بالنسبة لموضوعاتها المختلفة، فكما أن سماعك للموسيقى الراقية يحرك المشاعر والعواطف ويدعو إلى الرضا، ورؤيتك لرسم صورة أو تمثال أو بيت جميل.. إلخ . تبعث فى نفسك حركة مقبولة. كذلك قراءتك لقطعة من الشعر الجيد أو النثر البليغ أو قصة خيالية أو تاريخية منضبطة اللغة والإعراب، تؤثر فيك ذلك التأثير الوجدانى نفسه.
وكما أن موضوعات الفنون الجميلة هى الموسيقى والغناء والرسم والتصوير والنحت بجميع أنواعها، كذلك موضوعات الأدب أو الآداب هى القطع من المنظوم والمنثور والمكتوب ولو كانت مقالا أو قصة أو شعرا أو نثرا أو حتى كانت هجائية، ولا شك أن قوام هذه الموضوعات هو فى الأساس اللغة الصحيحة والصرف والنحو السليمين من حيث فصاحة الكلمة وبلاغة المعنى وصحة تركيب الجمل ومتانة الارتباط وجمال الأسلوب، فليس كل ما يكتب أدب وليس كل من يكتب أديب.
فالبحث فى الأدب وفى تاريخ الأدب، يدعو حتماً إلى البحث فى أصول اللغة التى هى مادة نسجة، فقد أحسن السيد مصطفى الرافعى إذ قدم لنا بحثه فى "تاريخ آداب العرب" بحثاً مستفيضاً فى تاريخ اللغة العربية وأصولها ونشأتها وتفرعها وما يتصل بذلك من موضوعات مرتبطة بها. ثم أردفه ببحث فى تاريخ الرواية العربية منذ نشأتها، وهذا هو ما أفرد به الجزء الأول فى كتابه وكنت من المحظوظين الذين كان لهم شرف الاطلاع عليه ودراسته بعناية، وكان من الرواد الأوائل الذين بادروا بمثل هذا الاجتهاد التاريخ الأعظم لعالم الأدب والأدباء، ولعل دار الكتب المصرية ومكتبة الإسكندرية تحتفظ بنسخة من هذا الكتاب النادر حتى يتسنى لكل راغب فى الاطلاع على تاريخ الأدب العربى من كتاب وأدباء ومثقفين، للاستفادة من هذا المطبوع القيم الذى يدون تاريخ العرب الأدبى، وينور للعامة أذهانهم، حتى نخرج من أمّيتنا ونصبح أمة تعى تاريخها أو ليس من العيب أن يعرف الغرب عنا أكثر مما نعرف العرب عن أنفسنا.