ذاع صيت الشيخ محمد رفعت بين الناس وأحب الناس القرآن من خلال صوته، وتفهموا آيات القرآن ومعانيها من خلال طريقته فى التلاوة ووقفاته وسكناته وحسن تلاوته لها، وكان الشيخ محمد رفعت يقرأ القرآن بكل جوارحه ومشاعره ويعيش مع الآيات التى يقرأها ويبكى أحيانا، وهو يتلو بعض الآيات، فأراد بعض محبيه أن يسجل له تلاوته، وخاصة أن أكثرها كان خارج الإذاعة وفى الحفلات والمنازل واستأذن من الشيخ رفعت فى الأمر، فأمهله الشيخ حتى يستفتى بعض العلماء، فلما ذهب إلى أحدهم يستفتيه فى الأمر رفض بشدة قائلا له: إن تسجيل القرآن صوتيا بدعة لم تحدث من قبل، ولم يجزها أحد من العلماء، فأخذ الشيخ رفعت بفتوى هذا الشيخ ورفض التسجيل ولولا أن بعض تلاميذه ومحبيه استشعر خطأ هذه الفتوى وبعدها عن روح الشريعة وسجل للشيخ رفعت فى غفلة منه واستغلالا لكف بصره لما كانت لدينا كل هذه الأشرطة لهذا الصوت الملائكى الرائع.
لقد كاد هذا المفتى أن يحرم أجيالا كاملة من أصوات رائعة خاشعة لا تتكرر أمثال الشيوخ العظام محمد رفعت أو محمود الحصرى أو عبدالباسط عبدالصمد أو غيرهم، لو أخذ هؤلاء بفتوى أمثاله.إنه لم يفهم أن القاعدة الفقهية تقول: «إن الأصل فى الأشياء الإباحة».. وليس المنع وأن المنع هو الذى يحتاج إلى دليل وليس الإباحة فما الذى يضير القرآن والدين من تسجيل الصوت لتتمكن كل الأجيال من سماع أروع الأصوات. لقد كاد أمثال هذا المفتى الذى لا يعرف شيئاً عن مقاصد الشريعة أو روح النصوص أو حتى فقه الابتداع والاستنان أن يحرم البشرية كلها من الحفظ الثانى للقرآن».
لقد حفظ القرآن فى الكتب ويرجع الفضل فى ذلك لسيدنا عثمان بن عفان الذى خاف على القرآن بعد أن قتل الكثير من حملته فى حروب الردة، فأراد أن ينقله من الصدور إلى القراطيس.. ومن العقول وحفظها إلى الأوراق والجلود وحفظها، أما الحفظ الثانى للقرآن والذى اعتبره مهما وعظيما ولا يقل أهمية عن الحفظ الأول فهو حفظ القرآن بـ«قراءاته العشر» قراءة وصوتاً ولهجة وأداءً.وقد سخر الله القراء المصريين العظام لذلك أمثال الشيوخ وأئمة القرآن، رحمهم الله، محمد رفعت ومصطفى إسماعيل والحصرى وعبدالباسط عبدالصمد ومحمود على البنا ومحمد ومحمود صديق المنشاوى وأبوالعينين شعيشع.. والشعشاعى وغيرهم.. وكل منهم كانت له بصمة فريدة ونغمات رائدة فى قراءة القرآن.. وقد صدق الملك سعود ملك السعودية الأسبق حينما قال: «نزل القرآن فى مكة وطبع فى تركيا وقرئ فى مصر».. إشارة إلى أن القراء المصريين أعظم القراء صوتاً وأداءً.
إن هذا الحفظ الثانى العظيم للقرآن الكريم الذى قام به هؤلاء الشيوخ العظام ما كان ليتم ولا ليكتمل لو كان فقه مثل هذا المفتى سائداً أو غالباً، إنه وأمثاله هم الذين جروا البلاء على الشريعة الإسلامية وأرادوا أن يظهروها بمظهر العاجز فى مواجهة الحياة.. أو الناكص عن التفاعل البناء مع الحياة وهم الذين أعطوا أسوأ صورة عن الإسلام وحولوه من دين ديناميكى يتفاعل مع الحياة ويأخذ منها ويعطى، ويعلم الآخرين ويتعلم منهم، إلى دين استاتيكى جامد لا روح فيه ولا حياة.. قابع فى زوايا النسيان فى المساجد أو بين ثنايا الكتب والمراجع، ولو أنهم راجعوا هدى النبى العظيم لوجدوه قد استعار فكرة الخندق من أمة الفرس التى كانت تعبد النار ولم يستنكف عن قبول هذه الفكرة لما طرحها عليه سلمان الفارسى ولم يقل يومها إنها بدعة.. ولم يقل إنها من أمة تعبد النار.. لكنه قبلها وأقبل عليها وطبقها ونفذها وانتصر بها ودحر بها الأعداء.
ترى لو أن أمثال هذا الفقيه كان مكان عمر بن الخطاب، وهو يقود دولته الحديثة ويطور جيشها، بحيث يحوله من جيش تطوعى كما كان أيام الرسول صلى الله عليه وسلم إلى جيش محترف له ديوان وقيادة وجنود ثابتين وله مرتبات ونظم محددة.. ترى ماذا كان سيصنع مع عمر؟.. وماذا سيقوله له؟! إنه كان سيرفض تطوير الجيش وسيبقيه على هيئته الأولى التى لا تتناسب مع اتساع وعظم دولة الخلافة وقتها.. كما رفض بعض الفقهاء أيام الخلافة العثمانية تطوير الإنكشارية بعد تكرار هزيمتها وتحويلها إلى جيش عصرى على النمط الأوروبى الحديث.. مما جعل السلطان العثمانى يبطش بالإنكشارية والفقهاء معاً الذين ثاروا على السلطان وأعلنوا الحرب عليه.
ترى لو كان هذا الفقيه مكان عمر بن الخطاب وهو يستعير نظام الدواوين «أى الوزارات» من بلاد فارس عبدة النار ولم يكن نظام الدواوين معمولاً به فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم ولا عهد أبى بكر الصديق.. تراه ماذا كان سيقول لعمر بن الخطاب؟! أظنه كان سيقول له : «اتق الله.. هل تستعير أنظمة الكفار فى الحكم.. هذه بدعة لم تحدث أيام الرسول ولا أبى بكر»، لقد أدرك عمر بن الخطاب وأمثاله من الصحابة والفقهاء العظام مقاصد الشريعة فى الإسلام وعلل الأحكام وداروا معها حيث دارت، وكانوا معها حيث كانت، وعرفوا ثوابت الإسلام فكانوا فيها فى صلابة الحديد وعرفوا متغيراته فكانوا فيها فى مرونة الحرير، إن مهمة الفقيه الأخذ بالأيسر لنفسه وأسرته وجماعته ودولته وأمته ما لم يكن إثما استنانا بهدى النبى صلى الله عليه وسلم «الذى ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما.. فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه».
إن أزمة الفكر الإسلامى المعاصر هو عدم القدرة على الجمع بين الواجب الشرعى والواقع العملى جمعاً صحيحاً.. وعدم الموازنة الدقيقة بين تراث السلف ومعارف الخلف.. والجمع بين خير الاثنين.وعدم الموازنة بين خطاب الأصل ومقتضيات العصر، وكذلك عدم قدرتنا على الجمع بين احترام تراث الأمة باعتباره إنجازاً بشريا والتعامل معه دون تقديس ولا تبخيس.. ودون القطيعة معه أو محاولة تحطيمه وتحطيم رموزه.. ولكن التعامل معه بالنظر النافذ والقراءة الناقدة المتبصرة تكميلاً لنقصه وتسديداً لخطته، إن البعض يريد هدم الموروث كله والبعض الآخر يريد البقاء عليه بكل ما فيه سواء ناسب العصر أم لم يناسبه وكلاهما مخطئ.. والموروث هنا هو عطاء وفقه البشر.. ولا أقصد به القرآن والسنة لأنهما مقدسان، وهما يمثلان الوحى المعصوم بدرجاته المختلفة.
إننا لا نريد جموداً على الموروث من كتب الفقه ولا جحوداً له فى الوقت نفسه.. ولا إيجاباً لتقليده ولا نبذاً له ونفياً لعطائه، إننا لا نريد غلق باب الاجتهاد لأنه مفتوح حتى يرث الله الأرض ومن عليها.. لتجدد حاجات المجتمعات والناس.. ولا نريده مفتوحاً لكل من هب ودب ولا علم له ولا لغة ولا فقه له.. إنه اجتهاد منضبط لأهله من أهل العلم والفقه.. كالاجتهاد فى الطب لا يمكن أن يترك لغير العلماء من الأطباء فلا يقول البعض نفتح لجراحة الزائدة الدودية من الظهر أو من شمال البطن مثلاً.. فهذا هراء وليس اجتهادا.