أحمد الجمال

«النوم فى القرموص» وتقاليد الصحبة فى الله

الثلاثاء، 17 فبراير 2015 11:03 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
من عاش حياته يمشى على الرمل ترى قدميه وساقيه وجذعه وبقية جسده إلى رأسه وقد انطبعت بهذا المسير.. إنك تراه مائلا للأمام والساقين عند الركبتين فيهما انثناء بسيط، ومشط القدم وأصابعها قويين لأن الرمل يقاوم بليونته ولا تستطيع أن تشد ساقيك وتضرب بقدميك، كما لو كنت تمضى على أرض صلبة، وكلنا تقريبا جربنا المشى على رمال الشواطئ.

وللرمال انعكاسها على مهارات ساكنها ومواهبه، حيث يبرع قصاص الأثر فى اقتفاء آثار أية أقدام دبت على الرمل.. فهذه أقدام امرأة عذراء.. وتلك ثيب.. وثالثة ثيب حامل.. وهذه أخفاف بعير قاعود.. وتلك لناقة عشار.. وثالثة لبعير أعور، حيث يظهر أكل العشب من ناحية، فيما الناحية الأخرى عشبها لم يقربه فم!

والرمال خير فراش إذا اشتد القيظ أو كان الليل قرا زمهريرا.. وذات ليلة فارقنا مجلس مولانا الشيخ عيد أبوجرير، وذهبت بصحبة النائب الشيخ على بن حسن بن خلف وعلى أبومصماص وسالم أبومسلم المعاذى لحضور حفل عرس بدوى، واستقبلونا أحسن استقبال بعدما ترجلنا عن السيارات على مشارف مضارب الخيام المنصوبة مشرعة الواجهات، وعلى ناحية أضرمت النيران لطهو الطعام مع مراعاة أنلا يركب الدخان الريح.. وأفسح لنا صدر المجلس.. وأشعل البعض سجائره وآخرون أشعلوا الغليون الضخم المعبأ بأوراق التبغ الخام.. وفى لحظة جاء رجال يحملون أناجر «جمع أنجر» اللحم الهبر، ومعهم آخرون يحملون رصات الخبز الطرى المخبوز لتوه على جمر متوهج مفروش على الرمل، ويبدأ رجل جهورى الصوت صائحا متسائلا: من؟.. فيرد عريف الحفل: قل فلان بن فلان.. ويرد صاحب الصوت العالى فيما بين يديه رغيف كبير مطوى على بعض قطع هبر اللحم: حياه الله!

وجاء الدور على صديقى الشيخ على بن حسن بن خلف وسأل الرجل: من؟ وجاءه الرد: قل حضرة النائب المحترم على بن فلان بن فلان.. ثم: حياه الله، وعندما جاء الدور على العبدلله: احتار العريف فيمن أكون، ولكن جاءه صوت سالم أبومسلم حازما: قل أستاذ أحمد رفيق حضرة النائب.. ثم حياه الله!

وبدأ الشوط الأول فى سباق الهجن الضامرة «وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق».. ويتم تضمير البعير بأن يبدأ تنظيم طعامه وشرابه وتقليلهما يوما بعد يوم إلى أن تلتصق بطنه بظهره.. فيكون بطنه ضامرا ووزنه خفيفا ولديه قدرة على تحمل الجوع والعطش لعدة أيام!

وعندما حل المساء انعقدت حلقات السامر والدحية - دال مشددة مكسورة - والدحية حلقة رجال يميلون أماما وخلفا متشابكة أيديهم ووسطهم حاد يحدى ويقول: مكسب صلاة النبى بقلوب مطمئنة.. وينطق الكلمة الأخيرة محذوفة الهمزة «مطمنة».. وهم يردون من ورائه، ثم يشتد الإيقاع فتتوالى الأصوات الجماعية: «دحية.. دحاحى.. دحية.. دحاحى.. دحيان يقول...».

وعندما حل موعد النوم تلقيت التوجيه بأن آخذ عباءة - «محذوفة الهمزة عباة» - وأسوى قرموص!.. وسألت ما القرموص لأتلقى الإجابة العملية عندما نظرت إلى من يسوون القراميص: تنزل حضرتك على ركبتيك ثم تحفر لنفسك حفرة بطولك فى الرمل وتعمقها قليلا قليلا إلى أن تعرف أنها تسترك، ثم تفرد العباءة على أرضيتها وتنام، بحيث يكون نصف العباءة فراشا ونصفها الثانى غطاء.. والعجيب أن النوم فى القرموص يحمى من الشرد مثلما يحمى من البرد!

وفى اليوم التالى «تفاولنا» أى أخذنا فطورنا وقهوتنا المحمصة والمطحونة والمغلية على راكية النار المشتعلة أمامنا.. ولك أن تأخذ القهوة فى «البيشة» - فنجان بدون ودن - لغاية خمس مرات، وإذا أردت أن تعرب عن أنك اكتفيت فلا عليك إلا أن تهز البيشة بين أصابعك ليراها الساقى فيتوقف عن صب القهوة لك!

وفى هذا حكاية يحكيها الشيخ على أبومصماص تقول: إن بدوا - جمع بدوى - كانوا يرتحلون من مضاربهم إلى محافظة الشرقية ليرعوا حلالهم - بهائمهم - فى الحقول الخالية من المحاصيل والتى تبقى فيها الحشائش.. وتعودوا أن ينصبوا خيامهم، ويمارسوا عاداتهم بما فيها شرب القهوة! وذات مرة أتاهم أحد الفلاحين، فعزموا عليه بالجلوس وشرب القهوة معهم.. وبدأ الساقى يسقيه مرة واثنتين حتى تجاوز الخمس المتعارف عليها وما زال كلما صب له فى البيشة يتناولها وإذا بالساقى يصيح فيه بلهجة بدوية غاضبة: «شف - شوف - إذا كان كيفك برأسك أديك أتكيفت، وإذا كان كيفك ببطنك دونك والقربة» أى أنك شربت من القهوة ما يشبع الكيف فى رأسك.. ولكن إذا كان بطنك هو محل تكيفك فاذهب إلى قربة الماء وأشرب منها حتى تشبع!

وعدنا إلى المجلس الصوفى الوقور فى جزيرة سعود، وبعد صلاة العصر أهل مولانا الشيخ عيد أبوجرير الذى وصفت هيأته وطلته فى مقال الأسبوع الفائت، وجلس فى صدر المجلس وران صمت مهيب لم يخرقه إلا صوت عيد أبومسلم زوج ابنة الشيخ عيد أبوجرير: يا جماعة رجاء أن لا يدوس أحدكم على الرمل حافيا لأننا رششنا الماء لترطيب الجو ومحتمل أن العقارب تهيج وتطلع فى أى وقت وقد تلسع الحفاة».. وعندها دار فى ذهنى ديالوج داخلى عجيب: «لماذا خلق الله العقارب والحيات وكل هذه الكائنات المؤذية»؟! ثم دقائق، وإذا بمولانا يشير إلى العبدلله بأصبعه ويسألنى: «إنت من يا ولد؟!».. فقلت فى نفسى ولنفسى: «دا هيستهبل! دا شافنى قبل كده خمس ست مرات» ورددت: أنا فلان ابن فلان.. وسأل ثانية: إيش تشتغل؟ ورددت: طالب فى قسم تاريخ بكلية الآداب جامعة عين شمس، وسأل ثالثة: «أنت تعرف كيف تكون الصحبة فى الله ولله؟.. واستكمل: أنت صعبان علىَّ»، ولا أخفى أننى شعرت بخليط من الاستياء والرهبة والرفض، لأن المجلس كان نصف دائرة متسعة متعدد الصفوف فيه قيادات عسكرية من المخابرات الحربية.. وفيه بدو وفيه فلاحون وبشر كثير.

وفوجئت أنه ينادينى: تعا.. واجلس إلى جوارى هنا.. وجلست عن يمينه، وبدأ حديثه بأن لامنى ولام الشيخ على خلف على رحلة الأمس التى كانت للهو فى السامر والدحية!، ثم أردف.. وأنا هنا لا أبالغ لأنه دخل مباشرة فيما كنت أحاور نفسى فيه: شوف يا جمال.. كان فيه واحد بيه زيك كده.. وكان عنده قصر كبير - وهو ينطق كلامه باللهجة البدوية التى تقلب القاف جيما قاهرية - فيه جنينة كبيرة.. وفى يوم كان يتنزه مع مرأته - مراته - فى الجنينة.. وشاهد جحورا للخنافس فى ممرات الجنينة، فنادى على الجناينى ووبخه بقسوة وأمره بهدم الجحور وقتل الخنافس، ولكن امرأته حاولت أن تثنيه وقالت اتركها حية يمكن ربنا خلقها علشان سبب إحنا مش عارفينه.. ولكنه رفض.. وبعد فترة جاءه مرض فى ساقيه يشبه «الحمرة» ولف وداخ على الدكاترة ولا فائدة إلى أن ساقته قدماه إلى رجل فقير وغلبان مثلى، ولكنه مثل الزكيبة أو الشوال الذى ملأه الله بركة.. وسأله عن علاج فإذا به يقول له: خذ شوية خنافس وحمصها واطحنها ثم ضعها على جروحك.. وكان فى ذلك شفاه.. وعرف أن الخنافس فيها كميات من اليود تطلقها دفاعا عن نفسها فتكوى جلد من يمسك بها!.. وأنهى مولانا أبوجرير كلامه بسؤال تقريرى موجها لى: عرفت يا جمال ليش ربنا خلق العقارب والحيات والخنافس.. أنت ما تعرفش أنه من السموم الناقعات دواء؟!

وربت الرجل على كتفى، ونادى على خادمه المخلص سالم: يا سالم هات الديوان، وكان الديوان كتابا مكتوبا بخط اليد أملاه مولانا وهو أمى بالكتابة.. لا يكتب.. وسأل: من يقرأ لنا فى الديوان؟! وتعالت الأصوات من معظم الحاضرين: أنا يا مولانا.. وفيما أنا صامت مأخوذ بجواره أخذ الديوان من يد سالم وقال: افتح يا جمال صفحة كذا واقرأ لنا موضوع الصحبة فى الله ولله! وبدأت أقرأ عدة صفحات أملاها مولانا حول آداب الصحبة بين الناس.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة