فى يناير الماضى 1914 اقتحمت عناصر مسلحة تابعة للتنظيمات التكفيرية وعلى رأسها « أنصار الشريعة» مجمعا سكنيا لمصريين يعيشون فى مدينة «سرت» بليبيا واختطفت 13 مسيحياً منهم وقتلت بعضهم دون ضجة إعلامية كبيرة.. وكان التنظيم قد قام قبلها بتفجير الكنيسة القبطية فى مدينة «مصراتة».
وبعد مرور عام تقريباً على قتل المسيحيين المصريين فى العام الماضى انضمت أنصار الشريعة إلى تنظيم داعش وقامت بأكبر مذبحة فى تاريخ مصر الحديث إذ ذبحت 21 مسيحياً مصرياً وصورتهم فى فيلم متقن الإعداد والإخراج وبثته دون حياء أو خجل عبر اليوتيوب.
وإذا كانت الجريمة الأولى قد مرت دون كثير انتباه من المصريين حكومة وشعبا، فإن الجريمة الثانية هزت أركان مصر كلها وجعلتها تقف صفا واحدا للثأر من داعش وتؤيد حكومتها فى أى إجراء عقابى عنيف لها باعتبار أن داعش تخطت كل الخطوط الحمراء للأمن القومى المصرى الذى تهدد بطريقة خطيرة وغير مسبوقة.
المهم أن هذا الحادث فرض على كل مصر الاهتمام بالشأن الليبى وخريطة الجماعات المسلحة فيها؟.. وكيف وصل الأمر بليبيا إلى هذه الحالة المزرية؟
إن أمر ليبيا الآن لا يهم الحكومة المصرية وأجهزتها المعنية وكل مختص بالحركات التكفيرية فحسب ولكنه يهم كل مواطن مصرى فى المدن والقرى فى الوجه البحرى أو الصعيد.. يهم الفلاح كما يهم العالم الاستراتيجى فالجميع يسأل عن كل شىء فى ليبيا خاصة خريطة هذه الجماعات ولماذا وكيف؟! ومتى؟! وأين نشأت هذه المجموعات والميليشيات المسلحة؟! إلى آخر هذه الأسئلة التى تحتاج إلى إجابة.
ولعل هذا المقال المختصر سيجيب على أهم سؤال فيها وهو: لماذا تتناثر المجموعات التكفيرية والمسلحة.. بل العصابات المسلحة فى كل مكان فى ليبيا؟ ولماذا ليبيا بالذات تجد فيها هذه الفوضى الميليشاوية والمسلحة والتى لا ضابط لها ولا رابط.
والإجابة على هذا السؤال تبدأ من أيام معمر القذافى الذى حكم ليبيا أربعين عاما كاملة بالحديد والنار، وظل هناك هاجس لدى القذافى لا يفارقه وهو خشيته من بناء جيش وطنى قوى وموحد ومحترف يقوده قائد أعلى أو وزير دفاع عسكرى محترف حتى لا ينقلب عليه هذا الجيش ويطيح بحكمه كما فعل هو فى شبابه بأبسط الإمكانيات.
وفى الوقت نفسه وجد القذافى نفسه يحتاج لقوة مسلحة تحمى دولته وحكمه فما الحل فى هذه المعضلة؟!
لقد توصل هذا الرجل الغريب الذى جمع بين المكر الشديد وجنون العظمة وجنون الاستئثار بالسلطة إلى فكرة جنونية وهى إهمال الجيش الليبى تماماً وتكوين ما يسمى بـ«الكتائب العسكرية» المنفصلة التى لا يعرف بعضها بعضا ولا تجمعها قيادة مشتركة، ولا أى تنسيق عسكرى أو تدريبى أو تقنى أو اشتراك فى المهام والأهداف.. وطعم كل كتيبة منها بمجموعة من الأفارقة بحجة ساذجة وواهية وهى أن هذه الكتائب هى نواة لتوحيد أفريقيا سياسيا وعسكريا وتكوين جيش أفريقى موحد.
وكانت هذه خدعة كبرى من خدعه الكثيرة لشعبه الذى خدعه من قبل بحجة أن ليبيا لا تحتاج لجيش لأن الشعب كله من المفروض أن يدافع عن الوطن.
المهم أن القذافى جعل كل ابن من أبنائه أو قريب من أقربائه أو من يضمن ولاءهم قائداً لكل كتيبة. فهذه كتيبة «خميس القذافى» وكانت أكبر الكتائب وأقواهم.. وهذه كتيبة «معتصم القذافى».. ومعتصم وخميس هما من أولاد القذافى.. «يعنى زيتنا فى دقيقنا».. وهذه كتيبة «الجويفى» يقودها قريبة يدعى «عبدالقادر». وكل كتيبة كان يمكنها أن تشترى أسلحة بمفردها.. بالرغم من أن مخازن وزارة الدفاع مكدسة بالأسلحة الروسية وقد تتصادم هذه الكتائب وتتقاتل لأتفه الأسباب، وكان وزير الدفاع لا يملك أى سلطات حقيقية على الجيش فضلاً عن هذه الكتائب.
وبعد زوال القذافى ونظامه وتدمير جيشه الصورى وأسلحته وكتائبه وخاصة بعد القصف الجوى للناتو.. بدأت الميليشيات والمجموعات المسلحة التى شاركت فى الثورة تظهر على الساحة الليبية بقوة.. وهى التى أخذت ما تبقى من أسلحة الجيش وانضم إلى هذه الميليشيات مسلحون كانوا قبل ذلك فى الجيش أو الشرطة أو الحركات الإسلامية المتشددة أو مقاتلين جاءوا من بلاد كثيرة بحجة الجهاد ضد القذافى فى البداية ثم الانضمام إلى الجماعات المتشددة بعد ذلك.. وبدأت تظهر جماعة أنصار الشريعة بمدينة درنة الليبية والتى انضم إليها أمثالها فى بنغازى والتى كونت بعد ذلك «مجلس ثوار بنغازى» الذى ضم كل المتشددين والتكفيريين ومعظم بقايا الحركات المتشددة الذى انضم جزء منه بعد ذلك إلى داعش وهذا التنظيم هو الذى قام بمذبحتى المسيحيين المصريين التى تحدثت عنهما قبل ذلك.
والغريب أن كل الجماعات الليبية هناك ذابت فى بعضها رغم اختلاف أفكارها وتياراتها بدون استثناء وأصبحوا فى بوتقة شبه موحدة لم تحدث من قبل فى تاريخ الحركات الإسلامية.. حتى أنك قد تجد أن أنصار الشريعة ومجموعة الدروع وفجر ليبيا وداعش فلا تكاد تلمس فارقا جوهريا بينهما على الأرض بل وفى الفكر، فقد ذابت المسافات تماما بينها فى سابقة خطيرة.
وكل هذه الحركات وغيرها بعد الثورة جمعها جامعان مهمان خطيران هما:
أولاً: عدم الرغبة فى تصحيح مسار القذافى السابق وتكوين جيش وطنى محترف على مستوى عال يحمى الوطن والمواطنين، بل ومحاربة أى محاولة لتكوين مثل هذا الجيش بأى طريقة.
ثانياً: إبقاء وضع الجماعات والميليشيات وسيطرتها بقوة السلاح على مناطقها وقتل من يخالفها وصنع تحالفات إقليمية أو دولية لتحقيق مصالح ضيقة لهذه الجماعات والميليشيات على حساب الوطن.
وأكبر دليل على ذلك أن ميليشيات فجر ليبيا والمتحالفة مع الإخوان هناك قامت بتفجير المطار الدولى بطرابلس وأشعلت النار فى عشرات الطائرات ومستودعات الوقود فى أكبر كارثة اقتصادية بليبيا وذلك لعلة واحدة هى حرمان الجيش الليبى الوليد والحديث التكوين من السيطرة على المطار أو انضمام جنود الحراسة لهذا الجيش الناشئ حتى لا تقوم هناك دولة مركزية لها جيش موحد.
يعنى أن هذه الميليشيات دمرت أهم صلة لليبيا بالعالم وأهم معلم من معالم الدولة الحديثة خشية تكوين الدولة والجيش الموحد. وبذلك انتقلت ليبيا من جنون القذافى إلى جنون الميليشيات والمجموعات التكفيرية والمسلحة.. والتى ينضم إليها هناك بعض البلطجية ومحترفى الإجرام حتى أن تكوين الميليشيا هناك لا يحتاج إلا إلى مئات من الجنود المدربين من أى جنسية وبعض الأسلحة ثم علم واسم مع فرض سيطرة على منطقة معينة.
وإذا كان القذافى قد ظلم الليبيين قيراطا فإن هذه الميليشيات تظلم ليبيا والليبيين وجيرانهم بغير حساب ودون ضابط وفى همجية ووحشية لا سابق لها.
وهكذا انتقلت ليبيا من جنون إلى جنون أعظم، ولو كان لديها جيش وطنى محترف مستقل ما حدث لها ما حدث.. وقام الجيش بخلع القذافى فى بداية الثورة لينتهى الأمر بأقل الخسائر.. وتنضبط الدولة كلها بعد ذلك.