يقول الكاتب الجزائرى مالك بن نبى: (قد تعودنا بالنسبة إلى الآلة على الواقع القائم فى أن عمله لا يمكنه أن يتحقق إذا نقصتها حزقة أو صامولة، ولكننا لم نُقرّ فى أذهاننا نفس القاعدة بالنسبة إلى العمل البشرى)، هذا التشبيه يسوقه الأستاذ مالك ليوضح فيه أن النشاط البشرى يخضع للسنن، وإن اختلفت هذه السنن عن سنن الآلة المادية، ومن السنن الكونية الرئيسية التى تحكم حياة البشر قول الله عز وجل فى سورة الرعد آية 11: «إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ»، إنه قانون إلهى يسطّره لنا البارى عز وجل فى كتابه حتى نكون على بيِّنة وهو: أن الله لن يغير حال قوم من وضع ضنك مذموم إلى وضع مرضٍ مريح إلا إذا غيّر هؤلاء القوم أنفسهم وما فى قلوبهم.
والسنة الموجودة فى هذه الآية هى سنة عامة تنطبق على كل البشر وتشمل كل الناس، بدليل أن كلمة «قوم» فى الآية لم تأت مخصصة بقوم معينين، وإنما هى لكل قوم ومجيئها نكرة فى الآية يدل على ذلك، فمضمون هذه الآية ينطبق على كل البشر أجناساً وأدياناً، الأبيض والأسود، والمسلم وغير المسلم، فأى مجتمع يطبقها سوف يحقق ثمارها. كذلك هذه الآية تبيّن: أنها سنَّةٌ اجتماعية لا سنَّة فردية، فكلمة «بقوم» تعنى الجمع أو الجماعة التى يطلق عليها بلد أو مجتمع ولا يفهم من الآية قصد فرد معين، بدليل أن الله لم يقل (إن الله لا يغير ما بإنسان حتى يغير ما بنفسه) ولا يوجد فيها ما يدل على شخص فرد، سواء كان رجلاً أم امرأة، مؤمناً كان أم غير مؤمن، وإنما الحديث عن قوم أى عن مجتمع له خصائصه بكل محتويات القوم أو المجتمع المعين باعتباره كياناً واحدًا، وعلى هذا يكون مضمون الآية (إن الله لا يغير ما بقوم)- ما بمجتمع أو كيان اجتماعى- حتى يغير هذا المجتمع أو الكيان الاجتماعى ما بأنفسهم، وهذا النظر إلى الموضوع يبين خطورة أن يبقى فى المجتمع أعداد، مهما كانوا قلة لا يتمتعون بالوعى التام لقضايا المجتمع وكذلك خطورة عدم وجود العدد الكافى، أو الحد الأدنى من الذين يعون الأمور على هذا الأساس من النظر، وإدراك ضرر وجود غير الواعين فى الأمة يولد لدى المجتمع شعوراً بالخطر، أن يكون المركب الذى يسير بالمجتمع يحتوى على نماذج لا تعرف سنن طفو الأجسام على الماء، فيسعون بحسن نية أو سوء نية لخرق السفينة، كما ورد فى الحديث الشريف الصحيح، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (مثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِى أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ، مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِى نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعاً، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا)، فالمحاسبة فى الدنيا جماعية، ومحاسبة الآخرة فردية، أما كون المسؤولية فى الآخرة فردية فالآيات التى تدل عليها كثيرة، منها قوله تعالى فى سورة مريم آية 81: «ونرثه ما يقول ويأتينا فرداً»، وقوله تعالى فى سورة النجم آية 40: «ألاَّ تزرُ وازرةٌ وزرَ أخرى وأنْ ليسَ للإنسانِ إلاَّ ما سعى وأنَّ سعيهُ يُرى»، وأما المسؤولية الاجتماعية، أى مؤاخذة المجتمع كله، فكذلك واضح فى قوله تعالى من سورة الأنفال آية 25: «واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب»، فحين تنزل المصيبة على المجتمع المقصر فإنها تعم أفراداً لم يكونوا مقصرين، وبالمقابل قد يسعد أفراد مقصرون فى المجتمع السليم، ويدل على هذا أيضاً حديث الرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل: «أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث».
وفى الآية تغييران، تغيير الله وتغيير القوم، لأن نص الآية- على حسب قواعد الإعراب- أن فاعل التغيير الأول المذكور فى الآية هو الله سبحانه وتعالى، وفاعل التغيير الثانى هم القوم أو المجتمع، وإن كانت القدرة التغييرية الثانية هى هبة من الله تعالى للقوم وإقدار منه تعالى للمجتمع على ذلك، وعلينا ألا ننسى هذا التوزيع فى العملية التغييرية، لأنه كثيراً ما يغيب عنَّا ما يخص الإنسان من التغيير ويختلط علينا الأمر، وهذا الغموض يفقد الإنسان ميزته وإيجابيته فى عملية التغيير، وإن أى ظن أو طمع فى أن يُحدث الله هذا التغيير الذى جعله من خصوصياته قبل أن يكون القوم هم بأنفسهم قاموا بتغيير ما بأنفسهم هو تواكُل مذموم ويبطل النتائج المترتبة على سنة هذه الآية ويفقدها فاعليتها، وفى الآية ترتيب بين حدوث التغييرين، والتغيير الذى ينبغى أن يحدث أولاً: هو التغيير الذى جعله الله مهمة القوم وواجبهم، والرجاء بأن يُحدث الله التغيير الذى يخصه قبل أن يقوم القوم (المجتمع) بالتغيير الذى خصَّهم الله به، يكون مخالفاً لنص الآية، وبالتالى إبطالاً لمكانة الإنسان وأمانته ومسؤوليته، ولما منحه الله من مقام الخلافة على أرضه، لأن هذا التحديد فى مجالات التغيير وهذا الترتيب فيما ينبغى أن يحصل أولاً وما يحدث تالياً، هو الذى يضع البشر أمام مسؤولية حوادث التاريخ، قال تعالى فى سورة النحل آية 33: «وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ».
هذا وإن مجال التغيير الذى يحدثه الله، هو ما بالقوم، والتغيير الذى أسنده الله إلى القوم، مجاله ما بأنفس القوم، و«ما بقوم» يشمل الكثير فهو يشمل أول ما يشمل ما يمكن أن يلاحظ ويرى من أوصاف المجتمع: من الغنى والفقر، والعزة والذلة، والصحة والسقم، والتراحم والإيثار، وينبغى أن نتذكر هنا أن القصد ليس الفرد بمعنى كل فرد بذاته، وإنما المجتمع العام، فالتغيير الذى يحدثه الله من الصحة والسقم، والغنى والفقر، والعزة والذلة يعود إلى القوم بمجموعهم لا إلى فرد محدد، مثلاً: يمكن النظر إلى المجتمع على أساس الصحة والسقم، باعتبار عدد الأصحاء فى المجتمع، فإذا كانت نسبة الذين يتمتعون بصحة كاملة هى 50% من المجتمع، فإن هذا المجتمع أقل نعمة من المجتمع الذى نسبة الأصحاء فيه تبلغ 90% من أفراده، وكذلك الأمر بالنسبة للغنى والفقر وهكذا.
و أما التغييرات التى يحدثها الأقوام فإن الله تعالى علَّقها بما بالأنفس، والمراد بما بالأنفس: الأفكار، والمفاهيم، والظنون، فى مجالى الشعور واللاشعور، وكذلك ما ينتج عنهم من الأخلاق والعادات التى تظهر بوضوح فى المعاملات. إن عدم إدراك مشكلة العالم الإسلامى بهذا العمق هو الذى يجعل الشباب فى حالة الحيرة والتخبط التى هو عليها الآن عندما أراد التغيير، إن البداية يجب أن تكون بتغيير ما بالأنفس وإصلاحها، فالسنن الإلهية فى الكون لا تتغير وهى حاكمة، قال تعالى فى سورة الأحزاب آية 62: «سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً».
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
صفوت الكاشف*
اتفق معك فى السنن والنواميس المشار إليها ... ولكن ؟
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
يابو حامد ارحمنا .. العالم متكركب وانت لسه فى التأملات
بدون