بتردد دلف من باب المقهى. جال ببصره فى الجالسين، فلما رآنى اقترب بأدب وصافحنى مبتسمًا وقال مقدمًا لى نفسه: (الملازم أول.. أ.ع.. ضابط فى شرطة المرور). دعوته للجلوس، فاستجاب، ثم أخرج من جيب جاكته أجندة سوداء صغيرة نسبيا، وهمس: (يسعدنى أن تطالع كتاباتى).
ملامح وجهه تشى بأنه لم يتجاوز الثلاثين، وقسماته متناسقة لولا وجود غلظة فى شفته السفلى، لكنها غير منفرة. سمرته لطيفة وطوله فارع وأناقته واضحة، ويفوح من جسده أريج محبب. دعوته على شاى فوافق.
(يوميات ضابط فى الشارع) هو العنوان الذى وضعه لهذه اليوميات. وزعت عينىّ بينه وبين اليوميات فابتسم باطنى، ومضيت أقرأ:
اليوم الأول: الاثنين 5 يناير.. وصلت إلى موقعى فوق كوبرى أكتوبر عند ميدان رمسيس فى الثامنة صباحًا. الزحام خانق، واعترى العسكرى المسؤول اضطراب كبير. طمأنته.. ومددت ذراعى مانعًا من السير السيارات الصاعدة من الأرض إلى الكوبرى، حتى أيسر على القادمين من غمرة فرصة للمرور، فتكدس السيارات اليوم فاق التوقعات. نجحت فى فك الاشتباك بين السيارات، لكنى أخفقت فى إحداث سيولة مرورية فوق الكوبرى. بعد ثلاث ساعات رغبت فى قضاء حاجتى، فلم أعرف ماذا أفعل. اتصلت برئيسى النقيب (س.غ) الذى يقف عند منزل غمرة ورجوته أن يسمح لى بالبحث عن دورة مياه، فرفض لأن الزحام شديد، وقد يأتى قادة المرور بأنفسهم إلى هنا!
اليوم الثانى: السبت 10 يناير.. موجات من البرد تلسع عظامى فوق الكوبرى رغم أن والدتى رفضت أن أخرج من البيت دون أن أرتدى ملابس داخلية من الصوف.. السيارات قليلة والسيولة المرورية متحققة للمتجهين نحو ميدان التحرير فقط، بينما اختناق شديد فى الاتجاه المعاكس.. لمحت الرجل العجوز يهبط من تاكسى أمام مبنى النيابة الإدارية مثل كل يوم، ويعبر الطريق ليتسول من السيارات المقبلة من ميدان التحرير. سعال شديد بدأ يرج كيانى وكأن روحى ستخرج من جسدى.. تذكرت قول الطبيب قبل يومين: (صدرك به من التلوث ما يهدد حياتك بخطر كبير، فاقلع عن التدخين) ابتسمت وأخبرته: (أنا لا أدخن.. إنه عادم السيارات الذى أستنشقه بانتظام كل يوم لمدة ثمانى ساعات)!
اليوم الثالث: الاثنين 12 يناير.. أكره يوم الاثنين والأربعاء.. فالجنون يعترى سائقى السيارات فى هذين اليومين، والفوضى فوق الكوبرى متفاقمة، فكما قال لى زميلى فى اللاسلكى إن هناك ثلاث عربات متعطلة فوق الكوبرى، وأبواق السيارات تكف عن الصراخ.. أشعر بدوار، والسعال متزايد.. وأمس قال لى صديقى الذى يعمل فى دبى إن شوارع الإمارات خالية تمامًا من رجال المرور، فكل شىء منظم، الإشارت إلكترونية.. والشوارع ممهدة، والسائقون يعرفون قوانين وآداب القيادة جيدًا!
اليوم الرابع: الثلاثاء 13 يناير.. لم أذهب إلى عملى.. بل توجهت نحو مقر الوزارة، وقدمت استقالتى مشفوعة بعبارة واحدة: (لا أريد أن أموت بمرض صدرى.. فأنا أحب الحياة).
بعد أن انتهيت من القراءة.. تفرست فى ملامح الضابط وقلت: (يوميات جميلة.. وحزينة).