يسير تحديث الدولة المصرية فى طريق بعيد، وربما يكون موازيا لطريق واقع المجتمع المصرى نفسه الغارق فى التناقضات، وربما يمضى التحديث إلى مسالك خاصة ببعض الأفراد، تتمتع وحدها برفاهية التحديث، فيما لا تصل رفاهية هذا التحديث لسائر أفراد المجتمع، كانت هذه الأفكار هى التى تدور فى رأسى بينما أمضى فى الصفحات الأولى لكتاب هبة شريف «الكارو والمرسيدس - حداثة لم تكتمل»، الصادر حديثا فى القاهرة عن دار سلامة للنشر.
ليس من السهل الحديث فى بضعة سطور عما تضمنه هذا الكتاب من موضوعات مهمة تتعلق كلها بنقاش جاد عن أكذوبة تحديث الدولة المصرية، بينما عدد لا يستهان به من طبقات المجتمع المصرى محروم عمدا من هذه الحداثة، تشير مؤلفة الكتاب فى أولى صفحاته: المجتمع فى مصر لم يصبح حديثا تماما رغم أن به العديد من الناس الذين يتحدثون اللغات الأجنبية ويقودون السيارات ويجيدون التعامل مع كل مكتسبات المجتمعات الحديثة التقنية، مجتمع لم يتخط تماما طور المجتمعات التقليدية، مجتمع مهجن بين الحديث والقديم، أو هو حديث حداثة منقوصة، لم تكتمل كل أركانها بعد.
ولا تكفى الفكرة الرئيسية التى تحملها هذه السطور للدلالة على محتويات الكتاب، حيث قسمته «هبة شريف» إلى عدة موضوعات كاشفة فى معظمها على فداحة ما تعانيه بعض طبقات المجتمع من حرمان شبه كلى لرفاهية التحديث، ووقوعها بأسر المعتقدات البالية، التراثية، حيث تشير المؤلفة إلى أن العبور إلى الحداثة، هو أساس الصراع الدائر فى مصر الآن، وهو فى جوهره صراع ثقافى شرس، بين القديم والجديد، أو بين التراث والحداثة بلغة المثقفين، وتعرّف المؤلفة مفهوم الحداثة بأن لها عدة أبعاد، فهى ليست فقط الانتقال من الاعتماد على الكهرباء بدلا من البخار، أو التكنولوجيا بدلا من الأوراق، أو المواصلات الحديثة العصرية بدلا من تلك التى تجرها الحيوانات، إنما لها بعد اقتصادى رئيسى يعتمد على التصنيع وحساب التكلفة والربح، والتطلع إلى تسويق المنتجات المصنعة فى أسواق حرة، خاضعة للتنافسية، ومبدأ الربح والخسارة، كما يعتمد اقتصاد الدول الحديثة على مبدأ إعادة توظيف الربح لتحقيق النمو المتواصل لرأس المال.
وتلفت هبة شريف فى كتابها إلى أن البعد عن الحقائق الغيبية هو أساس الدول الحديثة، التى تتبنى فكرة «العقد الاجتماعى بين المواطن والدولة، بحيث صار الشعب هو مصدر السلطات – بشكل حقيقى وليس مجرد التظاهر بذلك – وتلفت المؤلفة إلى أن المواطنين فى هذا الموضع يكون لهم حقوق لا يمكن للدولة أن تنتهكها.
وتنتقل المؤلفة فى رشاقة من تعريفها للحداثة، إلى تأريخها لبدايات الحداثة التى عرفتها مصر فى مطلع القرن التاسع عشر، أثناء الحملة الفرنسية، وبعدها، حينما أتيح للمصريين لأول مرة معايشة نموذجا لدولة حديثة عن قرب، متمثلا فى أفراد الحملة الفرنسية، بجنودها وعلمائها، ومنذ ذلك الوقت بدأت مصر تتخذ خطوات من أجل اللحاق بركب التحديث، فتمت استعارة الأطر القانونية والتشريعية والنظم الاقتصادية والسياسية، لكنها كانت دائما تميل إلى التجريب العشوائى لأفكار تنبع من فكر الطبقة المسيطرة على الحكم، والنخبة المتحالفة معها.
وتضع هبة شريف أيدينا فى الكتاب على أسباب عدم اكتمال تحديث الدولة المصرية، وحرمان بعض الطبقات الاجتماعية عمدا من أطر التحديث، حيث تشير فى أول فصول الكتاب إلى أن الانتقاء الذى مارسته طبقات المجتمع الحاكمة لما يتناسب معها من الحداثة وإهمالها لباقى مكوناتها، تسبب فى الحداثة المنقوصة التى نعيشها اليوم فى 2015، ففرض طرق الإدارة الحديثة فى عهد محمد على أو الاشتراكية والعقلانية فى عهد عبد الناصر، لم يصحبه استعارة قيم الحداثة الأخرى مثل الحرية والديمقراطية والمساواة أمام القانون، لأن هذه القيم كانت تهدد بالطبع النظام السياسى، وهو ما أدى إلى كثرة المتناقضات فى المجتمع المصرى، وانتحاله أشكالا وهمية من التحديث تتكاثر كميا دون مضمون حقيقى.
اللافت فى الكتاب تغطيته لجوانب عديدة من المهم التطرق إليها فى تناولنا لأزمة تحديث مصر، ومن ذلك الخلل الذى اعترى النخبة المصرية، وأصابها بالجمود، وجعلها عاجزة عن مواكبة التحديث، أو قبوله والتعايش معه، فتشير هبة شريف فى الجزء الرابع من الكتاب، الذى عنونته النخبة المصرية: أين الخلل؟ إلى أن جمهورية يوليو التى ظهرت بعد 1952، شهدت ازدهارا فى الثقافة، لكنها كانت ثقافة شمولية، قائمة على مبدأ التوجيه، والإرشاد وهو ما يدين ثقافة جمهورية يوليو التى تعامت مع الثقافة بطريقة انتقائية.
نجحت هبة شريف فى هذا الجزء من الكتاب فى تفكيك مصطلح النخبة، وشرحه للقارئ العادى بأسلوب مبسط، وجاذب، واستطاعت أن تفسر لنا أزمتها الحقيقية مع المجتمع المصرى، فتشير إلى أن أمتلاك لغة أجنبية مثل إضافة كبيرة لرأس المال الثقافى، بجانب الاستماع للموسيقى أو الذهاب إلى الأوبرا، لكن العلاقة بين البرجوازية الثقافية والاقتصادية لم تكن على وتيرة واحدة دائما، ومع ذلك من يتمتع بمستويات عالية من رأس المال الثقافى، نجح فى التمتع بلعبة السيطرة الثقافية فى المجتمع، وتطرقت شريف فى كتابها إلى واقعة ازدراء موسيقى كبير، للفنانين الشباب الجدد أوكا وأورتيجا، فى إحدى البرامج التلفزيونية الحوارية، مدللة على كيف تحتقر البرجوازية الثقافية المثقفة الذوق المصرى السائد نظرا لأنه لا يمتلك رأس المال الثقافى، مثل الدراسة والتمكن من الأدوات الموسيقية وهو ما يملكه الملحن الكبير، فيما لا يملكه أوكا وأورتيجا.
ويذكرنى هذا الكتاب بكتاب اللبنانية مى غصوب «ما بعد الحداثة العرب فى لقطة فيديو»، فهو أيضا يناقش فكرة عزوف المجتمع العربى ككل عن مناقشة قضية التحديث، على الرغم من اختلاط ثقافة المدن العربية، وتجاورها بفضل التكنولوجيا، وبفضل دخول اللهجات المتعددة والأغانى فى لغة الخطاب اليومى بفضل ما قدمته الميديا العربية والغربية من محو للحدود، فصار بمقدور العربى أن يشترى طعامه من المحال الأمريكية، وأن يخطو فى شوارع تظللها لوحات مضيئة تحمل إعلانات تصنعها نفس مطاعم ويطالع برامج مسابقات مأخوذة نسختها من أصلها الأجنبى، ويتناقش فى الميكروباص الذى يحمل اسما يابانيا عن ارتفاع أسعار الكهرباء فى منزله، الذى تصنع عداداته الصين، كما أن تيكيت البنطلون «الجينز» الذى يرتديه هو نفسه يحمل اسما لمصممين إيطاليين أو غربيين ويتهافت لشراء عطور فرنسية، يفتخر بإهدائها لزوجته فى عيد ميلادها، أو فى عيد الحب الذى يحتفل العالم كله به.