«وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً». أنزلها الله تعالى فى معرض وصف حال أم وضعت رضيعها فى تابوت ثم ألقت بالتابوت فى نهر النيل، بعد أن أوحى لها الله أن ترضعه ثم تلقيه فى اليم حماية له، ووعدها، سبحانه، بإنه سيرده إليها ويجعله من المرسلين. كامرأة مؤمنة، نفذت الأمر وهى واثقة بوعد ربها، لكن كأم، أصبح فؤادها «فارغا».
شوف ياسى الأفندى، هذا التعبير فى وصف الفؤاد بإنه «فارغ» لن يعلم كنهه، ولا معناه، أى رجل على وجه البسيطة أيا كان، بل إنه لن يخطر على بال رجل، مهما بلغت عبقريته الأدبية، ليستخدمه فى وصف حال أم أخذ منها رضيعها، لإنه ببساطة لم يختبره. وإننى لم أفهم معنى هذا التوصيف إلا حين أنجبت ابنتى وظهر أن لديها نسبة صفراء عالية، ولابد من وضعها فى حضانة. كانت ابنتى فى الحضانة تحت رعاية الأطباء، وكنت أشعر، بشكل عضوى لا مجازى، أن ثقبا ما اخترق صدرى وسمح لهواء بارد أن يمر من صدرى ويخرج من ظهرى، حتى ظننت أننى معتلة، ثم وجدت نفسى أتمتم: «وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً».
سيدى المواطن، هذا عرض عضوى، ينتج مباشرة عن حرمان الأم من وليدها، لا يخففه قوة إيمان أم موسى، ولا ثقة أمة الله فى العلم والطب ومرابطتى أمام باب الحضانة. فما بالك بأم يتركها وليدها - نعم وليدها وسيظل وليدها حتى وإن غزا الشيب رأسه وعلا الكرش بطنه - ليسعى خلف الرزق ولقمة العيش، ثم تعلم إنه تم اختطافه من جماعة إرهابية، وتظل تمنى نفسها بنجاته، حتى تشاهده فى تسجيل مصور وهو يرتدى ملابس الإعدام، ويذبح، ويلقى بجثمانه فى البحر دون أن تودعه، أو تقبله، أو تخبره كم هى تحبه ومشتاقة إليه. ثم ما بالك بأم يتركها وليدها ليقوم بغارة على مواقع داعش، يذهب إلى الحرب دون أن يكون معه هاتف، ودون أن تعرف حتى موقعه ومكانه. ده أنا يا مؤمن كنت أتصل بهاتف الحضانة فى الثالثة صباحا لأقول لهم: أنا والدة الطفلة فاطمة الزهراء.. هى عندكوا؟ طب هى بتعمل إيه دلوقت؟
على هامش المجزرة والحرب، فكر الناس فى المؤامرة، ودراسة ملابس أعضاء داعش، وفى مهارة تصنيعهم للتسجيلات المصورة، وفى جدوى الحرب، وفى مدى استعدادنا لها، وتفرغوا للمزايدة على بعضهم البعض، وتخوين بعضهم البعض، وتزوير الأخبار والأخبار المضادة.. لكن أحدا لم يفكر فى قلب أم والهواء يصفر فيه، أو فى عينيها الزائغتين، أو عقلها الذى تحول إلى كومة قش، وأذنيها اللتين لم تعودا تسمعان سوى أصداء لأصوات لا تتبينها، أتعلم لم عزيزى القارئ؟ لأن مخترع السلاح وبائعه ومروجه ومفتعل الصراعات ومتخذ قرارات الحروب ليس بينهم أم واحدة. «وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً» توصيف لا يعلمه سوى الأمهات ورب الأمهات، والعالم لا يقوده الأمهات، ويحكمه رجال لا يخشون رب الأمهات.
علمت أن البرازيل حلت مشكلة شغب جمهور كرة القدم الذى كان يشكل صداعا ويموت على إثره العشرات والمئات بفكرة مبتكرة: أوكلوا مهمة الأمن والتنظيم فى مباريات كرة القدم إلى أمهات أعضاء روابط مشجعى النوادى.. وخلى عيل بقى يقل أدبه قدام أمه عشان القلم ينزل سخن على وشه قصاد صحابه. كما إن كائنا من كان لن يقوم بأى أعمال شغب فى مكان يعلم إن أمه فيه وقد تصاب بأذى. وقد قبلت الأمهات هذه المهمة على الرحب والسعة كى يحمين أبناءهن من غشم قوات الأمن التى لا تحسن شيئا سوى القتل. ربما لو كان العالم يحكمه الأمهات لكنا فى وضع أفضل، فالنساء ينتجن بشرا، والرجال ينتجون سلاحا كى يقتلوا به ما تنتجه النساء.