إن القوة الحقيقية تنبُع من داخل الإنسان، لا تُكتسب من الظروف التى تمر به. وقد مر بنا فى هٰذه الأيام نماذج من البشر الذين امتلكوا القوة الحقيقية فى أعماقهم، فلم يهتزوا أمام الإرهاب بكل سَطوته، وقدموا حياتهم لله دون تراجع أو تردد. وقد يسأل بعضٌ: من أين للإنسان فى الحياة بمثل هٰذه القوة التى تتحدى الموت؟!
لا يخاف الموت من عاش فى الدنيا وهو يعمل من أجل حياته ما بعد أن يترك هٰذا العالم، فتكون الحياة بالنسبة إليه رحلة يُقضِّيها الإنسان حتى يعود إلى الوطن السمائى، ويذكرنى هٰذا بقصة قرأتُها عن أهل مدينة كانوا يختارون ملكـًا غريبـًا ليملِك عليهم؛ وبعد عام كانوا يفاجئونه فيخلعونه من ملكه، ويطوفون به المدينة، ثم ينفونه إلى جزيرة نائية ليُكابد فيها مرارة الحزن والجوع حتى الموت بعد أن كان يعيش فى المدينة حسب ما يشاء ويرغب، متمتعـًا بملذات الحياة!! وفى أحد الأعوام، ملَّكوا عليهم رجلـًا حكيمـًا؛ فبدأ فى بناء منزل فى تلك الجزيرة، وجهَّزه بكل سبل الراحة المتاحة آنذاك. وما أن انقضى العام، حتى جاء أهل المدينة ونفَوه. لٰكنهم وجدوه سعيدًا مبتسمـًا! فسألوه عن السبب، فقال: لقد جهَّزتُ المكان الذى سأحيا فيه كل أيامى كما ينبغى لى. وتلك هى الحكمة التى اكتسبها هٰذا الرجل من حياة جميع من سبقوه؛ لقد أدرك الحياة الحقيقية.
لذٰلك، اعمل على زيادة رصيدك فى الحياة التى ستحياها فى السماء: اعمل الخير، قدِّم المحبة، شدِّد من تراه ضعيفـًا، لا تظلم أحدًا، اصنع سلامـًا بين الجميع، كُن متواضعـًا فيرفعك الله فى الوقت المناسب، ليكُن قلبك ممتلئـًا رحمة فإنها تحرك قلب الله وتشفع فيك أمامه. هناك كثير وكثير من الأعمال الصالحة التى تستطيع أن تقدمها فتكون لك لا عليك. أن ما تصنعه على الأرض هو دليل معرفتك بالله أو غربتك عنه.
أيضـًا لا يخاف الموت من ارتفع عن العالم وما يقدمه؛ يقول أحد الآباء: "جلستُ على قمة العالم حينما أصبحتُ لا أخاف شيئـًا ولا أشتهى شيئـًا.". وجال فى خاطرى وفكرى كلمات المتنيح البابا "شنودة الثالث": "لستُ أريد شيئـًا من العالم، لأن العالم أفقر من أن يعطينى."! وهنا أطرح هٰذا السؤال: ما الشىء الذى يمكن العالم أن يمنحك إياه، وتستطيع أن تحمله معك إلى الحياة السمائية؟ تقول إحدى القِصص الرمزية أنه عند دنو الموت من أحد الأغنياء، تضرع إلى الله أن يحمل معه بعض مقتنياته؛ فأذِن له الله. فملأ حقيبة سفر من الذهب واللآلئ، وعند باب السماء اعترضه أحد الملائكة، فقال له إن الله قد أذِن له. وعندما رأى الملاك ما يحمله الرجل ابتسم. فسأله الغنى عن سر ابتسامته، فقال له الملاك: لقد تعبتَ فى أن تحمل معك من الأرض ما نستخدمه هنا فى رصف الطرق! القصة رمزية، إلا أنها تحمل عمقـًا بديعـًا. ابحث عن كل ما هو ثمين فى الحياة بعد الموت؛ وهٰذا ما فعله أبناؤنا الشهداء فى ليبيا قبل أيام؛ نصلى من أجل التعزية والسلام لأسرهم ومحبيهم.