فى أحد اجتماعات «لا لبيع مصر» قبل ثورة يناير، وكان اللصوص من شلّة الوريث قد صاروا يسرقوننا عَلَناً وأصبحت أصول المصريين تُباعُ للأجانب بأبخس الأثمان، وأراضى الدولة تُوّزع على المحاسيب والأصهار، وفقاً لقوانين صاغها اللصوص بأنفسهم ولأنفسهم تُقنّن ما يفعلون، وبعد أن أخرجت العصابةُ ألسنتها للجميع (مثلما تعود وتفعل الآن مرّةً أخرى) وهى تزوّر الانتخابات بفجاجةٍ عينى عينك، وبعدما بلغَ السيلُ الزُبَى بدسترة التوريث بالمادة 76 المهينة، بما يعنى استمرار نزف ثرواتنا عشرين عاماً أخرى على الأقل كفيلة بأن تجّف ضروع الخير فى مصر تماماً.. فوجئنا بأحد كبار الوطنيين ينفجر قائلاً: (هذه العصابة تُسابق الزمن لنزف أصول الوطن وثرواته للخارج.. دون توكيلٍ من الشعب.. هذا فِعل احتلالٍ أجنبى.. والقانون الدولى يُجرّمُ هذه الأفعال.. ونحن سلميون وقد سُدّت أمامنا السُبُل ولا نستطيع نزع هذه العصابة أو إيقافها.. لا بُدّ من تدويل قضيتنا لاستصدار قرارٍ دولى بمنع التصرّف فى أصول مصر).. ما كاد المُناضل الراحلُ ينطق بكلماته الغاضبة حتى انفجر كل الحاضرين غَضَباً من مجرد طَرْح الفكرة.. فكرة مجرد إدخال الخارج فى قضايانا (وليس الاستقواء به).. لا سيما وأن هذا (الخارج) هو أُس البلاء ولا يُضمر للوطن خيراً.. كُنّا نعارض نظام مبارك ولكننا لا نُعارض الوطن.. بل نُعارضه من أجل الوطن.. ثار الجميع تلقائياً فى وجه الرجل رغم أننا كُنّا موقنين أنه لا يقصد المعنى المعيب لكلامه وهو الذى أفنى عمره دفاعاً عن الوطن وفقرائه.. وقد اعتذر الرجل فوراً وأرجع ما قاله إلى الغضب مما يحدث والخوف على أصول مصر وثرواتها.. كان فى مصر رجالٌ يعرفون الفارق بين أن تُعارض وأن تخون.
لقطةٌ أخرى.. فى أواخر ثمانينيات القرن الماضى كان الخلاف شديداً بين المعارضة والحكومة الكويتية، حتى أن الشيخ جابر أمير البلاد قام بحلّ مجلس الأمة ولم يَدعُ إلى انتخاباتٍ جديدةٍ لمدة خمس سنوات.. كان الجوّ مشحوناً بالخلافات.. لكن لمّا غزا صدّام الكويت لم يجد مُعارضاً كويتياً واحدا ولا نائباً كويتياً واحداً يؤيده فيما فعل واصطف الجميع مع الشيخ جابر فى مؤتمر الطائف الشهير مؤجلين أى خلافٍ لما بعد التحرير.. كانت هناك رموزٌ وقاماتٌ مثل أحمد السعدون وأحمد الخطيب وأحمد الربعى وغيرهم، لديهم من البصر والبصيرة ما يُميّزون به بين المعارضة والخيانة.. قُل الشىء نفسه عن أحزاب المحافظين والعمال والأحرار فى بريطانيا عشيّة الهجوم النازى عليها.. وأسقِطْه على أى أُمةٍ أُخرى حَبَاها اللهُ فى ساعة الخطر بمن يضع الوطن فوق كل اعتبار.
لقطةٌ ثالثة.. عندما حدث العدوان الثلاثى على مصر سنة 1956 كان عدة مئاتٍ من المصريين فى خصومةٍ مع النظام المصرى جَرّاءَ ما أصابهم من قانون الإصلاح الزراعى وقوانين التطهير (لا أتحدث عن الخطأ والصواب فى ذلك)، وفيما عدا قلّةٍ محدودةٍ جداً رحّبت بالعدوان ووصَمت نفسها بالخيانة إلى يوم الدين، فإن غالبية هؤلاء لم يُفكّروا مجرد تفكيرٍ فى أن يُداووا جُروحهم بتعميق جُرح الوطن.. ولم نسمع عن أحدٍ حرّض على جيش بلده ولم يكُن ذلك وارداً أصلاً.
لقطةٌ رابعةٌ.. قبل 1967 ورغم التأييد الجارف لعبدالناصر، فقد كان هناك من ينتقد ممارسات قِلّةٍ من العسكريين من مجموعة المشير تَمَدّدوا فى النشاط المدنى، فضلاً عن انتقاداتٍ طبيعيةٍ لا تَسلَم منها أى إدارةٍ لأى دولة.. ولكن عندما حدثت النكسة انصهر هؤلاء وأولئك فى نهرٍ واحدٍ تدفّق بامتداد الوطن يُدافع عن مصر لأنها الأبقى من أى نظام.
لقطةٌ خامسةٌ.. أعرف شاباً لآباء وأجداد إخوان، تحوّل بعد 30 يونيو إلى بوقٍ يردد ما يُصّب فى دماغه من هجوم بذىء وكاذبٍ على جيش مصر.. التحق بالجيش مُجنّداً كارهاً ومتصوراً أنه ذاهبٌ إلى جيش الكُفر والضلال حليف إسرائيل وعدو الإسلام (هكذا!).. ثم عاد إلى أسرته فى أول إجازةٍ نافياً ورافضاً كل ما سمعه من أسرته من أكاذيب ومُسبباً اضطراباً كبيراً فى (ثوابت) الأسرة.. الجديد أن المناقشات العائلية التى أعقبت تمرّد الابن كشفت عن اتفاق (بعض) أفراد الأسرة مع نظرة الابن للجيش ورفضهم جنوح قيادات الجماعة للإساءة إليه (رغم استمرار بغضهم للسيسى).. هذا (البعض) تغلّبت لديهم فطرة الوطنية على ثوابت التنظيم.. وأعتقد (أو آمل) أن تكون نسبتهم هى الأكبر لكن تقاليد التنظيم تمنعهم من التعبير عن رفضهم لمواقف الخيانة المشينة.. وهى التقاليد التى لم تمنع رجلاً بحجم الدكتور محمد حبيب نائب المرشد السابق أن يقولها بلا التفافٍ إن من يهاجم الجيش المصرى خائن.. نعم يا دكتور حبيب.. جيش مصر هو مصر.. لا يُهاجمه إلا واحدٌ من اثنين.. إن كان غيرَ مصرىٍ فهو عدو.. وإن كان مصرياً فهو خائن.. لكن يبدو أن هذه البدهية قد غابت عن بعض قيادات وأعضاء الجماعة الذين أضافوا إلى أخطائهم المتراكمة خطيئةً تقضى على أى احتمالٍ لتقبُل الشعب لهم فى المستقبل.. المصريون قد يتعاطفون مع المظلوم (إن صدّقوا مظلوميته) ولكنهم لا يقبلون الخائن أبداً.. لا مشكلة فى أن تُعارض السيسى أو تختلف مع مؤيديه فهو بشرٌ يُخطئ ويُصيب.. ولا خيرَ فينا إن لم نجهر برفض الخطأ (خوفاً أو نفاقاً).. ولا خير فيه إن ضاق صدره بذلك.. الاختلاف مع السيسى مُعارضةٌ واجبةٌ (دَعكم من الدببة التى تُحرّم ذلك)، لكن الاختلاف مع مصر خيانة.. الآراء وجهاتُ نظرٍ ولكن الخيانة ليست كذلك.. أقول ذلك بمناسبة الموقف المشين والكاشف لبعض قيادات الجماعة الذين بدا تعاطُفهم فى الأيام الأخيرة مع داعش أكثر من تعاطفهم مع ضحاياها من المصريين.. وجاء اصطفافهم مع أعداء مصر وقحاً وصريحاً.. والحقيقة أن هذا السقوط كانت له مقدماته الشبيهة بخطوات الشيطان.. ففى الأيام الأولى لاعتصام رابعة كان إعلام الجماعة يُدغدغ مشاعر البُسطاء بترديد الشعارات الدينية والحديث عما أسماه (المشروع الإسلامى) مُحوّلين الصراع السياسى إلى اقتتالٍ دينى.. ثم نصحهم مذيع الجزيرة (على الهواء) بتغيير الخطاب مائةً وثمانين درجةً ليلائم الخارج.. كان المعنى المباشر لذلك (بِلا لَبْس) أن هذه القيادات صارت تُراهن على الخارج لتمكينها من الداخل.. وهى سقطةٌ تَصِمُ الجماعةَ بالخيانة وتُخرجها من التاريخ المصرى بفضيحة.. توقعتُ أن يخرج من الجماعة من ينفى سريعاً هذه الشُبهة.. لكن الذى حدث هو تأكيدها.. ليس فقط بتكبيرات الفرح على منصة رابعة ابتهاجاً باقتراب بوارج الأسطول السادس الأمريكى من السواحل المصرية، ولكن بالتطبيق الفورى والعَلَنى لنصائح المذيع الإخوانى.. فأُزيلت الكتابات العربية عن المشروع الإسلامى (الذى لم يعد أحدٌ يذكره الآن) واستبدلت بشعارات بالإنجليزية مستوحاةٍ من أعتى ديمقراطيات الغرب.. وانمحى شعار الجماعة الشهير وأناشيدها المتوارثة وحَلّ محلها أحدث الأغانى الشبابية الغربية (!).. وتوّقف الهجوم على الكَفَرة والملاحدة والعلمانيين، وصار مُركّزاً على ما أسموه الانقلاب.. كان المفهوم فى البداية أن المقصود هم قادة الجيش وعلى رأسهم السيسى.. لكنهم ارتاحوا إلى هذه الفكرة وتماهوْا معها وعاشوا فى الدور وظهر من يُجاهر بالإفتاء بإباحة الهجوم على جيش الانقلاب (جيش مصر).. ثم (قضاء الانقلاب) و(إعلام الانقلاب) إلى أن وصلنا إلى أبراج كهرباء الانقلاب وقطارات الانقلاب وأتوبيسات الانقلاب وترام الانقلاب ومكاتب بريد الانقلاب وجامعات الانقلاب وسياحة الانقلاب ومصانع الانقلاب ومطار الانقلاب.. أو بمعنى آخر (شعب الانقلاب).. وهو أمرٌ لم يحدث إلا على يد الاحتلال الأجنبى.. ويضيفُ إلى عار الخيانةِ تُهمةَ الغباء.. فأى غباءٍ ذلك الذى يصوّر لصاحبه أن الدولة المصرية يمكن أن تسقط بقنبلةٍ هنا أو حريقٍ هناك؟.. الدولة فى مصر لا تسقط.. يمكن أن تُخدش فقط لكنها لا تسقط.. يسقط فقط من يُفكر فى إسقاطها.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة