هل شاهدت من قبل دجاجة ترقص؟! الدجاج يرقص فى حالة واحدة عندما يُذبح.. لكن أولئك الذين لا يعلمون تلك الحقيقة وليست لهم خبرة بذبح الدجاج أو يقفون بعيدا فلا يلحظون تلك الدماء المتناثرة من عنقها الممزق فإنهم سيظنون أن الدجاجة المذبوحة... ترقص، ولربما يضحكون من ذلك المشهد ويظنونه شيئا طريفا يستجلب البسمة إلى شفاههم متعجبين من تلك الدجاجة الراقصة، الفارق هنا بين الانطباع الحادث والانطباع الذى كان يفترض أن يحدث ويحل محله هو تلك الصورة المشاهدة أمامهم، الصورة التى تتحكم فيها إلى حد كبير زاوية النظر واتجاهه والمؤثرات المحيطة به "ما نسبة كف الإنسان إلى عرض السماوات والأرض؟ الجواب: لا شىء يُذكر، ولكن إذا أدنيت كفك من عينيك حجب عنك السماوات والأرض؛ كذلك تشغلنا التوافه عن الحقيقة الكبرى" بهذا المثال البديهى حاول الأديب الراحل على الطنطاوى رحمه الله أن يقرب تلك الفكرة من الأذهان، مجرد كف يد لا تتخطى مساحتها بضعة سنتيمترات مربعة قادرة على حجب نور الشمس وتلألؤ النجوم وزرقة السماء وصفاء القمر ليلة البدر، فقط إن وضعت فى طريق الرؤية وقطعت زاوية النظر أو ضيقتها وقللت من وضوحها تلك الزاوية التى من خلالها ينظر كل منا إلى الأشياء التى تحيط به ويتشكل حكمه عليها ويخرج وصفه لها فيرى هذا حقا وذاك باطلا ويحكم على هذا بأنه شريف وذاك بأنه وضيع ويرى هؤلاء ثوارا مقاومين بينما يراهم آخرون مخربين ويصف هذا بالشذوذ الفكرى والانحراف العقلى بينما يراه آخرون من زاوية مختلفة مجددا عبقريا وهكذا تختلف الأحكام على نفس الأشياء بحسب زاوية النظر إليها والمؤثرات التى تحيط بتلك الزاوية.
من استطاع أن يسيطر على تلك الزاوية أو يؤثر عليها تأثيرا يكفى لتغيير درجات وضوحها واتجاه رؤيتها فإنه ببساطة سيتحكم فى تصورات الناس ومفاهيمهم وحكمهم على الأشياء وتفاعلهم معها ومن ثم لا يريهم إلا ما يرى وبالكيفية التى يرى، وربما تكون قدرة العين على التمييز منقوصة من حيث الكفاءة أو الخبرة وبالتالى يفسد حكمها على الأشياء وتصوراتها للوقائع فتراه يحكم على (الفالصو) بأنه ذهب لمجرد قشرة ذهبية تم طلاؤه بها وهو معذور فعينه تفتقر إلى العلم والخبرة اللازمين للحكم الصحيح على ذلك المعدن أو ربما نظره أضعف من أن يلاحظ الفارق بين المزيف والحقيقى، المشكلة فيمن لديه هذا القصور فى الرؤية أو النقص فى معايير التمييز أو الخلل فى زاوية الإبصار ورغم ذلك يصر على المنافحة بكل قوة ليثبت أن الحكم الذى وصل إليه من خلال زاوية إبصاره المعلولة هو فقط الصواب والحق الكامل الواضح الذى لا لبس فيه وبالتالى لا حاجة لمزيد من الإيضاح والبيان، ومن هنا تتضح قيمة وصف القرآن المتكرر بأنه الحل الجامع لذلك النقص فى الرؤية والخلل فى الإدراك "هَذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" "قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِى فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ" "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَىءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ" "قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ" "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا"، إنه النور المبين الذى يظهر حقائق الأمور حين يسطع على سطحها وهو التبيان الذى يوضح الفوارق بين الأشياء ويبين تفاصيلها وهو البصائر التى بها يميز الإنسان بين الصواب والخطأ والحق والباطل والضار والنافع وهو الهدى الذى يدرك به المرء طريقه ويعرف وجهته ويصح حكمه وتتكشف له حقائق الحياة التى كانت غائبة عنه حين كان يصر على النظر إليها من خلال تلك الزاوية الضيقة ويظن أنها غاية الأمر ومنتهاه بينما هى فى الحقيقة مجرد زاوية، زاوية نظر.