كثير من الروايات تصدر فى مصر الآن، وفى العالم كله بالمناسبة، وكثير مما يصدر فى مصر يجد هجومًا من بعض الكتاب الأكثر تمرسًا على كتابة الرواية. يحكمون عليها مباشرة بأنها روايات تافهة، لكن هذه الروايات التافهة فى نظر البعض تحتل مكانًا متقدمًا فى التوزيع، ولهذا معنى واضح، أن هناك من يقرأها ويتسلى بها.. لقد صارت الرواية جاذبة لكل الأعمار فى الكتابة، ولكل الناس، حتى أن داعية مثل عمر خالد كتب رواية يقال عنها إنها رواية للقيم والأخلاق، وطبعًا وراء هذا التوجه محاولة للوصول لجمهور الرواية الذى يزداد يومًا بعد يوم.
قرأت من هذه الرواية بالصدفة بعض صفحات، ولم أكمل لأنها مليئة بالوعظ والنصائح، وكلاهما غريم الرواية الأول، طبعًا ومن المؤكد أن عمرو خالد لم يقرأ شيئًا فى تاريخ الرواية، ولا المذاهب الأدبية، ولا النقد الفنى، مثل غيره يرى الرواية حكاية وخلاص، والأدب نشاط مشروع لكل إنسان، بل هو نشاط جاذب أكثر لكل إنسان، من منا لم يكتب شعرًا فى بداية حياته لحبيبته وهو طالب فى المدرسة؟ لكن كم منا صار شاعرًا؟، هذه هى القضية، الذين صاروا شعراء هم الذين درسوا تاريخ الشعر أو قرأوا حتى أشعار غيرهم، وعرفوا الأوزان والبحور، وعرفوا كيف يخرجون عنها إذا اختاروا قصيدة النثر، وهكذا.
هذه الروايات فى معظمها مثل محاولات أول العمر لن تصمد طويلًا للزمن، لكنها ستظل تشغل الناس، وتثير الحديث حولها، السبب هو ما أوضحت من الإقبال على فن الرواية، وعدم قدرة النقد الأدبى على ملاحقة هذا الفيض الغزير، وأنا لا أطلب من النقاد أن يفعلوا ذلك، بل أشفق عليهم، فقراءة الأعمال الضعيفة تصيب القارئ بالضعف فى أسلوبه.
وأذكر منذ زمن طلب منى المرحوم سمير سرحان أن أكون فى لجنة قراءة الأعمال المقدمة إلى هيئة الكتاب من الروايات والقصص. وبعد شهر اعتذرت، قلت له سوف ينهار أسلوبى، وينحط من فرط ما أقرأ من ركاكة.. أن تكون عضو لجنة قراءة لن تستطيع أن تغلق الكتاب بعد أول صفحة، ستستمر لبعض الصفحات ليكون حكمك موضوعيًا إلى حد كبير، وتركت هذه اللجنة، والآن ومنذ زمن وأنا حر فى قراءتى، أستطيع أن أغلق الكتاب بعد صفحة أو صفحات، وأستطيع أن أستمر إذا وجدت مبررًا لذلك، وهكذا أن يقرأ النقاد كل ما ينشر مصيبة لهم حتى لو استطاعوا، لكن نحن فى حاجة بحق إلى دراسات عن هذا الفن وتاريخه وطرق الكتابة، لا أعرف كيف يتم ذلك، لكن لابد أن يحدث.
المعارك الأدبية الكبرى كلها كانت حول شكل الكتابة، صحيح أن وراءها أسبابًا فلسفية، لكن فى النهاية تنتهى إلى المدارس الأدبية، والأمر نفسه فى الفنون جميعًا، حتى فن التصوير الفوتوغرافى تقدم كثيرًا فى الخروج من التصوير التقليدى الذى يظهر الشخص على ما هو عليه، هذا كله غائب عن الشباب والكبار الذين يندفعون إلى كتابة الرواية.
لقد كنت فى البداية فى لجنة مؤتمر الرواية القادم فى مصر، وكنت صاحب الرأى أن يكون المؤتمر عن شكل الرواية عند الكتاب العرب، قلت إننا عرفنا الكلاسيكية، والرومانتيكية، والواقعية، والطبيعية، والواقعية الاشتراكية، والرواية الجديدة، والحداثة، ومابعدها من الروايات والكتابات الأوروبية، لكن الآن لدينا فيض من الروايات العظيمة فى الأدب العربى، ونحتاج أن نخرج منها بطرق الكتابة العربية أو أشكالها.. تركت اللجنة بعد عدة جلسات، وقبل أن أتركها صار العنوان قريبًا من ذلك مع إضافات أضافها الموجودون معى وقتها، لا أعرف كيف سيتم الأمر، ولا أريد أن أعرف، لكن من المؤكد سأهتم بالحضور زائرًا، وكعادتى سيكون ذلك قليلًا، ولمقابلة الأصدقاء الذين لا أقابلهم إلا فى هذه المناسبات.
المهم نعود إلى موضوعنا، هذه الروايات التى تفاجئنا كل يوم بالعشرات تحتاج أن يعرف الكثير من أصحابها شيئًا عن فن الرواية، لا يغريهم حجم المبيعات، فأجاثا كريستى، كاتبة الرواية البوليسية العظيمة، وزعت فى حياتها وقبل مماتها مليار نسخة من أعمالها، وهذا لم يحقق لها وجودًا فى الأدب الإنجليزى، مثل جيمس جويس مثلًا الذى هو الأقل مبيعًا لصعوبة بنائه الفنى.. ظلت وستظل كاتبة بوليسة بعيدة عن عالم الأدب الحقيقى، لم يكن ذلك ميزة فيها، أقصد التوزيع، ولا عيبًا فى كتابتها - الرواية البوليسية - هذا نوع من الكتابة، ولذلك أستثنى مما أقول روايات الرعب، والخيال العلمى، والمخابرات والبوليسية لأنها منذ البداية اختارت مجالها، ولا تنافس الرواية الأدبية فى شىء رغم المبيعات الكبيرة، وليس ذلك النوع من الكتابة عيبًا فى أصحابها، لكن العيب هو الخلط بينها وبين الروايات الأدبية، وهذا- للأسف- يحدث فى التناول الإعلامى، ولا يعيب دور النشر أن تهتم بهذا النوع من الكتابة، فدار النشر- أى دار نشر- تريد المكسب، لكن العيب أن تعتبر دار النشر هذه الروايات روايات أدبية، وتهمل الدعاية لما لديها من روايات أدبية.
إذا عرفنا ذلك انتهى الهطل الكثير من الشتائم على صفحات الإنترنت، لكن سيظل للنقد دوره الكبير فى الكتابة عن الروايات الأدبية الحقيقية، والتقدم أكثر فى الكتابة عن الأشكال الفنية.
فى مصر شباب رائع، وفى الوطن العربى كثير منه يغيظه هذا الاهتمام بالروايات غير الأدبية، لكن ليعرف أنه هكذا الحال فى الدنيا كلها، ما هو للتسلية السريعة هو الأكثر انتشارًا ومبيعًا، وقد تقبل عليه السينما أكثر من غيره، ويزداد انتشاره، لكن فى النهاية عالم الأدب يخلو منه، يظل فى نوعه وتصنيفه، روايات بوليسية أو رعب أو غير ذلك.
أكتب هذا الكلام لأننى أردت أن أكتبه من زمان، لكنى ترددت فيه حتى قرأت أكثر من «تويتة» لبعض الشباب من غير الأدباء فى الحقيقة، واحدة منها قالت فى تغريدتها: «كل ما يتأخر حد من صحابى على الشغل أسأله كنت فين يقول لى كنت باكتب رواية»، أما الثانى فقد قال: «قابلته فقال لى سأختفى يومين حتى أكتب قصيدة، فقلت له خليها ثلاثة أيام واكتب رواية، قال لى فكرة».. هؤلاء شباب أذكياء رغم السخرية، يعرفون أن الرواية فن عظيم صعب، وليس كل من أراد أن يحكى بكاتب رواية إلا نادرًا.