لا نكاد نلمح كلمة وطن فى شعر العرب الأقدمين، والشعر كان كتاب حياتهم، إلا نادرا، ومنها ما أنشده رؤية بن العجاج: «أوطنْت وطْنا لم يكن من وطَنى.. لو لم تكن عاملها لم أسكن»، وكان الوطن عند العرب لا يعدو كونه السكن وموطئ القدم، وهو ما يتأكد من تعريف أبى البقاء الكفوى للوطن فى كتابه الأثير «الكليات» بأنه «منزل الإقامة، والوطن الأصلى مولد الإنسان أو البلدة التى تأهل فيها، ووطن الإقامة هو البلدة أو القرية التى ليس للمسافر فيها أهل ونوى أن يقيم فيه خمسة عشر يوما فصاعدا، ووطن السكنى هو المكان الذى ينوى المسافر أن يقيم فيه أقل من خمسة عشر يوما»، وقد عبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بجلاء عن حبه لمسقط رأسه حين توجه إلى مكة دامعا، وهو يرحل عنها مرغما مهاجرا إلى المدينة: «إنك من أحب بلاد الله إلى قلبى، ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت».
أما العرب المحدثون فنقلوا المصطلح إلى مستوى أعمق من مجرد البيت والديار، وأداروا حوله جدلا لا يزال قائما حول منشئه ومبتغاه، فوجدنا من يقبله ويطوره مثل الإمام محمد عبده الذى عرفه بأنه «المكان الذى للمرء فيه حقوق وواجبات سياسية»، بل هناك من أصبح الوطن فى نظره هو الأولى بالولاء والانتماء والإخلاص، مثل الشاعر والفيلسوف اليمنى الكبير عبد الله البردونى الذى يقول فى عبارة دالة: «تذهب الزعامات وتبقى الأوطان».
فى المقابل وجدنا من يتحفظ على المصطلح مثل عبد العزيز جاويش الذى اعتبر أن الوطنية مصطلح أجنبى ظهر فجأة بأوروبا فى القرن الثامن عشر، انتقل إلى الشرق من العلوم الغربية التى تنافح عن المدنية الحديثة، بل هناك من يؤكد تشوه المصطلح فى ذاكرتنا ومخيلتنا الجمعية مثل المفكر التونسى عادل لطيفى الذى يقول: «لو عدنا إلى جذور تبلور هذا المفهوم فى الحالة العربية لوجدناه مرتبطا إلى حد كبير بالمعانات المتولدة عن هيمنة الاستعمار، أى سلب الأراضى والاعتقالات والتعذيب والقتل، وكل الحالات المرتبطة بتجربة الاحتلال والمؤسسة على نكران حق وجود الآخر، على عكس الحالة الغربية التى كان فيها وعى الإنسان بالوطن امتدادا لوعى الإنسان بذاته».
وقد ارتبطت الوطنية فى حياة العرب المعاصرين فى الغالب الأعم بالأقوال أكثر من الأفعال، أو بالتنظير أكثر من الممارسة، وبالعواطف أعلى من العقل، وبالأيديولوجيات قبل الفهم الموضوعى والواقعى، ولفتت هذه المسألة انتباه كاتب بمكانة تركى الحمد فرأى أننا فى العالم الثالث عامة نتحدث كثيرا عن الوطن والوطنية، ونملأ الأسفار الضخمة عن معناها ومبناها، بينما يمارس الناس فى البلاد المتقدمة وطنيتهم من دون أن يفكروا فى هذا أو يعلنونه ليل نهار، ويرى أن صانع الأحذية لو أتقن عمله فهو أكثر وطنية من زعيم لا هم له فى خطبه سوى الوطنية، وأب يزرع قيمة العمل فى ابنه هو أكثر وطنية من وزير يتحدث عن الوطن دوما.
ورغم أن الروح الوطنية مخبوءة بين جوانح المرء، ولا يحاسب الفرد عن غيابها إلا إذا اتخذ من السلوك ما يقر بذلك، أو ما يضعه فى تعارض مع مقتضيات الوطنية، فإن الدول جميعها تريد من مواطنيها أن يظهروا هذه الروح حتى ولو كانت مصطنعة، مثل ما فعلته منظمة MPAC حينما وجهت المسلمين الأمريكيين إلى الخروج من بيوتهم للاحتفال بالرابع من يوليو (يوم الاستقلال) فى وقت كانوا فيه منقوصى المواطنة، ومغبونين من سوء المعاملة بعد أحدث 11 سبتمبر 2001.
لكن فى جميع الأحوال فإن هذه الروح تعد قيمة خلقية سامية، منذ بدء الخليقة وإلى قيام الساعة، وهى تكمن فى حب الإنسان الفطرى لمسقط رأسه، أى المكان الذى ولد فيه وترعرع، وفيه عاش أبوه وأجداده، وغيرته عليه، وحرصه على الارتقاء به وإنهاضه، والاستعداد التام للذود عنه وحمايته من أى معتد غاصب، واعتباره دوما الملاذ الأخير، ليس للأوغاد كما قال جونسون، ولكن للأسوياء، ورحم الله أحمد شوقى الذى أنشد فى بيت خالد من الشعر:
وطنى إن شغلت بالخلد عنه.. نازعتنى إليه فى الخلد نفسى
و قال الجاحظ: كان النفر فى زمن البرامكة إذا سافر أحدهم أخذ معه من تربة أرضه فى جراب يتداوى به، ويبلغ الأمر مداه مع شاعر عربى آخر قال:
بلاد ألفناها على كل حالةٍ
وقد يؤلف الشىء الذى ليس بالحسن
وتُستعذب الأرض التى لا هواء بها ولا ماؤها عذب ولكنـها الوطـن!
إلا أن المؤرخ الهولندى الشهير يوهان هويزنجا يرفض اقتصار «الوطنية» على هذا الزخم العاطفى، بل يمدها إلى مجال العقل فيقول: «إن فى لفظة الوطنية شيئا من الإدراك الشعورى الواعى.. فهى تعبر عن اقتناع بالتزام يقيد صاحبه تماما نحو الوطن، التزام لا يحدده سوى ما للضمير من مبدأ سام مرشد». وهذا الإدراك قديم قدم الإنسان نفسه، فالوطنية فى نظره كانت موجودة لكن بألفاظ مختلفة معادلة لها، والتغير الوحيد الذى جرى فى القرون الأخيرة أن اللفظ بات أكثر تحديدا، أما ما عدا ذلك فكل ما يتعلق بالوطنية ظل على حاله، كغريزة بدائية فى المجتمع البشرى.
ويتجاوز المفكر المغربى عبد الإله بلقزيز هذا المستوى من الشعور القائم على الموروث الثقافى والدينى والاجتماعى الذى تكرسه المؤسسات التى تعكف على تلقين الفرد وتنشئته، معتبرا أن مثل هذا الشعور ينتج وعيا بحضارة أو عقيدة لكن ليس بوطن، ثم يضيف المصالح إلى العقل فى إدراك معنى الوطنية، ففى رأيه فإن الوطن ليس حقيقة جغرافية، وإنما هو حقيقة اجتماعية - اقتصادية وسياسية، كما أنه ليس حقائق قبلية مطلقة، وإنما حقيقة تُبنى بناء مستديما من خلال التوليد المستمر للمصالح المادية التى تصنع بين الناس روابط فتدمجهم فى وحدات اجتماعية وتكوِّن لديهم ذواتهم الجمعية. ويقول فى هذه الناحية: «لا يكفى المرء مثلاً أن يولد فى مصر أو المغرب من أبوين مصريين أو مغربيين، وأن يتلقّف تاريخ هذين المصرين من أمصار العرب، وأن يتشبع بعظمة رموز تاريخهما، وأن تكرّس البيئة العائلية والتربوية والإعلامية قيم الاعتزاز بالانتماء إلى البلد عنده، حتى تتكون فى وعيه مبادئ الوطنية المغربية أو المصرية، أو حتى يتحصّن وعيه من خطر البُرم بذلك الانتماء أو الرغبة فى التحلل منه»، وبذلك فهو يشترط أن يحصل الفرد على حقوق المواطنة، المادية والمعنوية، كاملة حتى يشعر الإنسان بمعنى «الوطن».
لكن هذه الشروط يمكن أن تتراجع أو حتى تختفى فى أوقات المحن، فيغفر المخلصون لبلدهم كل ذنوبه فى حقهم، ويبدون استعدادا حقيقيا لدفع أرواحهم فداء له. وهناك مثل قريب على ذلك يتمثل فى الحزن الذى تملك قلوب وأكباد كثير من السجناء والمعتقلين أيام حكم الرئيس جمال عبد الناصر من هزيمة 1967 على يد إسرائيل، رغم أنهم كانوا فى هذا الوقت يذيقون العذاب أصنافا بأيدى جلادين لا يرحمون، ولا يعترفون لأحد بأن يحب بلده بالطريقة التى تروق له.
وهذا الجانب الإيجابى للروح الوطنية هو الذى يغذى مقاومة التخلف والظلم والإرهاب ويصلب عودها، ويمثل بالنسبة لها، فى كل زمان ومكان، الوقود الأساسى الذى تعمل به، أو الزاد الرئيسى الذى تتقوت عليه. لكن هذه المرامى الحميدة للوطنية لا تتوفر فى كل الحالات، ففى ضوء وقائع التاريخ نلاحظ أنها ارتبطت أحيانا بالحروب القومية والنزعات الاستعمارية السافرة، فكثير من الحروب نشبت باسم الوطنية، واستخدم فيها «الوطنيون» كأدوات للتدمير وسفك الدماء ضد «المواطنين المستضعفين» للبلاد المستعمرة أو المستهدفة بالعدوان.
د. عمار على حسن
«الروح الوطنية».. الدين والأخلاق والمصلحة تدفعنا لحب بلادنا
الأربعاء، 04 فبراير 2015 11:07 م
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة