قد لا يكون هذا الحديث مهمًا، وقد يقول البعض إننا نعرفه، لكن لابد من العودة إليه حتى نعرف ماذا سنفعل.. لقد دخلت الدولة المصرية فى طور جديد مع الرئيس أنور السادات، كان المقصود به شطب ومسح كل أشكال الدولة الناصرية السابقة، كان الحديث عن الحرية هو الذى يملأ الإعلام، وخطب الرئيس، بينما كانت الدولة تفتح الباب لبيع مصانع القطاع العام لأصدقائها، وتقدم القروض الجبارة بلا ضمانات لأصدقائها أيضًا، وفتحت أبواب الاستيراد لكل شىء تحت شعار الحرية، فأكل الناس طعام الكلاب والقطط، لكن هذا أيضًا ليس هو المهم، المهم أن السادات فتح باب الجماعات الإسلامية تحت شعار الحرية أيضًا، لم يكتف بإخراجهم من السجون، بل قدمت أجهزته الأمنية والتعليمية وغيرهما لهم كل عون ليكونوا ظهيرًا له أمام الجماعات الشيوعية والناصرية والاشتراكية. ولم يفعل ذلك وحده، بل كانت دول مثل السعودية وأمريكا تشجعه على ذلك، ومعهما بدأ التدريب لهذه الجماعات على القتال فى أفغانستان ضد الاحتلال السوفيتى.. هؤلاء وغيرهم داخل البلاد تصوروا أنهم امتلكوا العالم بما ينزل عليهم من أموال النفط، وتأييد الدولة، وبدأوا بأكل من فتح لهم الباب، الرئيس السادات نفسه، كما بدأ بن لادن فيما بعد بمن أيده وشجعه ودعمه حتى خرج الاتحاد السوفيتى من أفغانستان، وكان الذى فعل معه ذلك هو أمريكا.. مرت سنوات طويلة على هذه الأحداث التى استمرت فى عهد مبارك بشكل آخر، يظل هؤلاء وغيرهم من الفرق الإسلامية كما هم، لكن لايفكرون فى الحكم، لهم عملان هو استخدامهم كفزاعة أمام القوى الخارجية، وأخذ الناس إلى الآخرة فى الداخل، فلا يفكرون فى السياسة، أو الإطاحة بالحكم حتى جاء إلى الوجود جيل جديد من الشباب يرفض الظلم والديكتاتورية والدولة الأمنية فأشعل الثورة.. القصة معروفة، هنا ظهر هؤلاء وعاد من فى الخارج منهم، وهكذا لم يعد التخلص منهم بنفس السهولة التى فعلها عبدالناصر من قبل.. أكثر من أربعين سنة مرت، وكل يوم تتعزز قوتهم، تنظيم على مستوى العالم لديه المال والخبرات، ثورة أطاحت بالنظام القائم، وشعب مخدوع أرادهم!
دعنا من الحديث عما جرى بعد ذلك، وعن تدخل قوى خارجية فى دعمهم بعد أن أزيحوا عن الحكم، دعنا نتحدث عما يحدث الآن من إرهاب، وبصفة خاصة فى سيناء، هذا الإرهاب الذى يطمع فى دولة إسلامية على سيناء، رغم دوافعه الدينية، هو أيضًا نتاج عصر مبارك الذى تحرر آخر جزء من سيناء، طابا، مع بداية حكمه، وبعده بدأت المعاملة غير الإنسانية لأهالى سيناء.. القصة معروفة، ليست القبضة الأمنية فقط التى أساءت إلى الوطن كله، لكن المعاملة غير الآدمية لها مظاهر كثيرة تحدثنا عنها كثيرًا، أقلها عدم تعمير سيناء، وعدم إتاحة الفرصة لأهلها فى التعليم، والوصول إلى وظائف فى الوزارات المهمة وغير ذلك، لن نطيل الحديث فيه أيضًا.
هذه هى الصورة التى خرج منها الإرهاب، ومن ثم دون دراستها، والإقرار بما فيها من حقائق ستصبح المعركة مع الإرهاب معركة عسكرية، سننتصر فيها طبعًا، لكن سيظل الإرهاب ينتظر أن يطل برأسه.. علينا أن نكون جادين وعمليين، وفى الوقت الذى نترك المواجهة العسكرية لأصحابها لابد من نزع جذور الإرهاب من المجتمع كله.. الدستور الذى يمنع قيام الأحزاب على أساس دينى لابد من تفعيله، وليس مهمًا أن السعودية التى تؤيد النظام، ولم تعد تؤيد الإخوان قريبة من السلفيين، فالنتيجة واحدة، وأن يعود السلفيون إلى عملهم الذى عرفته مصر فى مطلع القرن العشرين، وهو العمل الخيرى كأسلافهم المصريين، ومواجهة الخروج على ذلك بالقانون وليس القوة، وإعادة النظر فى الكتب المدرسية، وعدم إخفاء عصر كامل هو العصر المسيحى الذى يكتفى منه فى دروس التاريخ بسطرين، وكذلك التوسع فى دراسة الجوانب الحضارية فى التراث الفرعونى، وليس مجرد المعارك الحربية، بل الشعر والقصص والتأملات الفلسفية والدينية العميقة، ليعرف الطلاب أن ما أتت به الأديان السماوية عرفناه من قبل، وتطوير مناهج الدين فى التعليم، وعدم الاكتفاء بحفظ بعض الآيات القرآنية، لكن تقديم دروس من المدارس الفلسفية المستنيرة كالمعتزلة، وفى وقت مبكر فى المرحلة الإعدادية، وتبسيط ذلك، والعمل على أن تعود المدارس الحكومية مراكز ثقافية كما كانت أيام الملكية، وكما استمرت فى الستينيات، وأن تعود إليها الأنشطة الثقافية والموسيقية والفنية والأدبية وغيرها، وأن يتم تزويد مكتبات المدارس بالروايات والقصص والأشعار الحديثة الغائبة بسبب الرقابة، وأن يتم- كما يحدث فى الدنيا- وضع خطوط تخفى ما يراه الخبير جنسًا بالنسبة للطلاب الصغار، الإعدادى، وأن يطلق الأمر لطلاب الثانوى والجامعات، وتكون المطالعة الحرة أمرًا أساسيًا فى مكتبة المدرسة.. مدارسنا التى لم يعد من عمل لها إلا تحفيظ الطلاب وتشجيعهم على «التزويغ» لتلقى الدروس الخصوصية. على الجانب الثقافى يتم تشغيل بيوت وقصور الثقافة بعيدًا عن أى رقابة أمنية، ويعهد بها إلى فنانين وكتاب، وأن ترفع ميزانيتها، وأن تكون هناك رقابة على إنفاقها، وأن يعود إليها المسرح والفن التشكيلى وكل أشكال الثقافة التى كانت تنمحى دون تدخل أى أجهزة أمنية، وهو التدخل الذى انتهى بخرابها فى عهد مبارك، وإعادة البهجة إلى الميادين والحدائق والشواطئ من مسابقات فنية ورياضية وغيرها، وهذا عمل لوزراة الشباب سهل جدًا إنجازه، بحيث تبدو البلاد كما كانت يومًا بلاد البهجة والجمال، وبحث مشكلة تردى الوضع السينمائى بحثًا حقيقيًا، بحيث يعود المنتجون لإنتاج أفلامهم، فقد صرنا وقد كنا يومًا هوليوود الشرق لا ننتج إلا أربعة أو خمسة أفلام يقوم بها تقريبًا منتج واحد، ونشتمه لأن أفلامه لا تعجبنا، ولا نقدم بديلًا كافيًا عنها إلا فيلمًا أو اثنين، وأن تنتشر المسارح التى تقريبًا انتهت فى مصر، والأماكن الثقافية فى الوزارة التى أشرت إليها، بيوت وقصورالثقافة يمكن أن تقوم بذلك، ويطلق يد المسؤولين عنها فى جلب المساعدات من رعاة من رجال الأعمال مادامت الوزارة فقيرة، ولا أمل فى أن تكون غنية.. الإصلاح التعليمى فى الأزهر ومناهجه أمر تحدثنا فيه وغيرنا كثيرًا، ولايحتاج إلى حديث، والبدء بحق فى إقامة حياة ديمقراطية دون تدخل من أى جهة، وتكون انتخابات مجلس الشعب المقبل مدخلًا لذلك دون الخوف الذى لا معنى له، والذى يسوغ التدخل، وهو عودة الإخوان، فهم لن يحصلوا أبدًا على أصوات أعلى من غيرهم.. إعادة النظر فى قانون التظاهر الذى قيد الحياة السياسية، وقانون الحبس الاحتياطى المفتوح، والإفراج عن ضحاياه من المتظاهرين السلميين، وهم الأغلبية، لتنفك عقدة هذا المجتمع، وتكون هذه هى المصالحة الحقيقية بين النظام الحاكم والجيل الجديد الذى أتى بالنظام الحاكم بمظاهرات جبارة تجاوزت الثلاثين مليونًا، وقال عنها الإخوان المسلمون إنها فوتو شوب.