قد يعتبر البعض أن وقفة الأئمة والدعاة أمام مسجد النور، والتى عبّروا من خلالها عن دعمهم الكامل للدولة، ممثلة فى القيادة السياسية والجيش والشرطة، مجرد وقفة تضامنية جاءت ضمن سلسلة من الوقفات المشابهة فى وقت نحن فى حاجة فيه إلى كل يد تمد يدها لمؤازرة الدولة، ومساندتها فى حربها ضد الإرهاب.
هذا وإن كان صحيحًا إلى حد ما، فإننى أرى ما هو أبعد من ذلك بكثير، فتلك الوقفة التاريخية، وربما تكون غير المسبوقة على هذا النحو من الروعة والقوة، تحمل فى طياتها الكثير من المعانى، كما أنها توجه أيضًا العديد من الرسائل الضمنية إلى الداخل والخارج، وقبل هذا وذاك فإنها- فى رأيى- تجسد بوضوح قدرة الدكتور مختار جمعة، وزير الأوقاف المستنير، على تغيير شكل الخطاب الدينى ومضمونه، كما توضح بشكل ملحوظ إمكاناته الفائقة فى ترجمة فكر القيادة السياسية وتوجهها نحو الدعوة، والدعاة، وأئمة المساجد، فهاهم الدعاة والأئمة يخرجون عن بكرة أبيهم فى وقفة لفتت أنظار العالم أجمع، وليس داخل مصر فقط، وهم ينددون ويرفضون جميع أشكال الإرهاب الذى يطل علينا يوميًا بوجهه القبيح من جهات تحمل شعارات إسلامية لتخفى خلفها نواياها الخبيثة وغير الشريفة، تحت مسميات دينية ظاهرها الرحمة، وباطنها العذاب.
وهنا أستطيع القول إنه استكمالاً لتلك الحرب التى خاضها، وما يزال يخوضها الدكتور مختار جمعة، وزير الأوقاف، تأتى تلك الوقفة لتقول للعالم أجمع إن هذا البلد الطيب، بلد الأزهر الشريف، بلد الوسطية، بلد الإسلام السمح، لم ولن يرضخ لتلك الدعاوى الهدامة التى تتخذ من الدين ستارًا لها، والتى كانت- وللأسف الشديد- تخرج من داخل بعض المساجد التى ظلت لسنوات خارج سيطرة وزارة الأوقاف، حيث كانت تدار حسب أهواء أئمة الفتنة ودعاة العنف والتطرف، وهو ما كان يجرى فى وضح النهار دون أن يقف فى طريقهم أحد، حيث كان يرى البعض أن تلك المناطق أشبه بحقول الألغام القابلة للانفجار فى أى لحظة.
وقد ظل ذلك الوضع «المقلوب» فى وزارة الأوقاف على هذا النحو المثير للدهشة إلى أن جاء الدكتور مختار جمعة، وهو رجل دين مشهود له بدماثة الخلق، وبعمق الرؤية، وقوة الشخصية، وفوق كل هذا وذاك غيرته على الإسلام، فهو- وكما عرفته عن قرب- لا يخشى فى الله لومة لائم، وهذا الأمر فى تقديرى هو الدافع الرئيسى له إلى خوض هذه الحرب الضروس منذ توليه الوزارة ضد تلك الفئة المتشددة التى كانت قد استولت بالفعل على عدد ليس بالقليل من المساجد والزوايا المنتشرة فى جميع ربوع مصر، والتى كانت تتحكم فى نوعية الخطاب الدينى المتزمت الذى يحمل الكثير من السموم، والأفكار المغلوطة والهادمة، البعيدة كل البعد عن صحيح الدين وتعاليمه السمحة.. لكنه بعون من الله وتوفيقه تمكن فى النهاية من تطهير تلك البؤر من «مشايخ» الفتنة، وقام أيضًا بتنظيفها من الدنس الفكرى الذى أحدثته الأفكار التى كانوا يقتطعونها من بعض السور والآيات لتوظيفها فى التأكيد على أفكارهم ورؤاهم الخبيثة.
إننى على يقين تام بأن تلك الوقفة للأئمة والدعاة التابعين لوزارة الأوقاف قد جاءت فى هذا التوقيت لتؤكد أن رجال الدين والدولة يسيرون فى الاتجاه نفسه، وهو محاربة الإرهاب، كل حسب إمكاناته، وبما لديه من قدرة على مجابهة العدو المشترك الذى يتجسد بشكل واضح فى تلك العمليات الإرهابية الخسيسة التى تروع الآمنين صباح مساء، وهو ما عكسته بشكل لمس القلوب، وحرك المشاعر تلك الكلمة البسيطة النابعة من القلب التى قالها الدكتور مختار جمعة، موجهًا كلامه إلى الأئمة والدعاة الذين شاركوا فى تلك الوقفة، حيث قال لهم: «جئت أشارككم وأشكركم على وقفة، هى لله، دفاعًا عن الأمة والعروبة والإسلام، حيث إن مصر هى درع الأمة وسيفها»، مؤكدًا أن «الإسلام بخير ما دامت الأمة بخير».
وهذا بالطبع خير دليل على وعى وزير الأوقاف بقيمة هذه الوقفة، ومدى تأثيرها الإيجابى أمام العالم أجمع، لأن دور الدعاة هو الحث على مكارم الأخلاق، وفقه التعايش، والإيمان، والتعايش مع الآخر، فالإسلام دين رحمة وأمان وتعايش مع الآخر، لكن من أراد أن ينال من ديننا ووطننا، فهؤلاء الدعاة مع القضاة والجيش والشرطة والإعلام والعمال قادرون على تحقيق مطلب رئيس الجمهورية بتجديد الفكر الدينى، حيث جاء الدعاة فى هذه الوقفة لتقديم فكر حضارى، لتتعلم أوروبا من علماء مصر، وصناعة نموذج تقتدى به الدنيا.
إننا الآن نعيش مرحلة جديدة وفاصلة فى عمر «الدعوة والدعاة»، فأئمة المساجد والدعاة الأفاضل يؤكدون- وبما لايدع مجالاً للشك- أن الخط الذى انتهجه الدكتور مختار جمعة، وزير الأوقاف، لم يكن مجرد حرث فى الماء، بل هو حقيقة واضحة وضوح الشمس، وأن جهوده الحثيثة من أجل إعادة الاعتبار لوزارة الأوقاف قد أسفرت بالفعل عن الكثير من النتائج الإيجابية، بدليل كل هذا الجمع من الأئمة الذين خرجوا بوازع من ضمائرهم، وبدافع من قلوبهم، وهم يقفون على قلب رجل واحد ليسددوا ضربة قوية، وفى مقتل لأصحاب الأفكار الهدامة الذين باعوا ضمائرهم لأنظمة «خبيثة» لم تكن أمينة بأى شكل من الأشكال على حاضر ولا على مستقبل هذا البلد.
أقولها وبأعلى صوت.. ها هم الدعاة والأئمة بوقفتهم التى أبهرت المجتمع المصرى ككل، بل أبهرت العالم الإسلامى، يعلنون أنهم قد استعادوا مكانتهم فى المجتمع، وتمكنوا بالفعل من التخلص من الفئة الضالة من المتشددين الذين ظلوا يتحكمون فى الخطاب الدينى لسنوات طويلة قبل أن تطلق القيادة السياسية توجهاتها نحو تغيير الخطاب الدينى، فلم يكن خافيًا على أحد أن بعض الاستخدام الدينى الرسمى لتجديد أو إصلاح الخطاب الدينى لم يتعد من قبل أن يكون تغييرًا طفيفًا فى موضوعات الخطب الدينية الرسمية لوعاظ وزارة الأوقاف وأئمتهم فى صلاة الجمعة فقط، وهى سياسة ظلت مستمرة، وإن كانت متغيرة فى موضوعاتها منذ عقد الستينيات من القرن الماضى، وكانت تحددها وزارة الأوقاف، وربما بمساندة من بعض كبار مشايخ الأزهر الشريف، ومع ذلك لم يحدث تغير فى عمق بنية الخطاب الدينى ومرجعياته إلا قليلاً لدى بعض الوسطيين، أو ما يمكن أن نطلق عليهم «المعتدلين»، فقد كانت من قبل- وللأسف الشديد- مسألة تجديد الخطاب الدينى تعنى لدى بعضهم -وهو الشائع إعلاميًا- تحديد رأى المؤسسة الدينية الرسمية فى بعض المشكلات الراهنة، من قبيل مواجهة الإرهاب، والتطرف الدينى، وبعض آراء الإخوان، وفتاوى مشايخ السلفية التى تبدو غريبة من منظور ثنائية الحلال والحرام، كما أنها كانت أيضًا تتمثل فى مساندة الخطاب الدينى الرسمى السلطة الحاكمة فى سياساتها الاجتماعية، أو مواجهة ظواهر البلطجة والجريمة، والأشكال الأخرى للخروج على القانون فى جرائم الوظيفة العامة، أو الاستيلاء على المال العام.
وظل هذا الأمر على هذا النحو فى اعتقاد الكثيرين ممن انخرطوا فى الحديث عن الخطاب الدينى فى السابق، لاسيما من ناحية التجديد والتحديث اللذين يدور التركيز عليهما، فقد كانوا يفهمون المصطلح على أنه يقتصر على هذا الجانب اللغوى والأسلوبى، وعلى أنه قد يمتد إلى بعض المضامين المتجسدة فى هذه الأساليب اللغوية، فظلت تصوراتهم مرتكزة حول أن المستهدف من تجديد وتحديث وتغيير الخطاب الدينى إنما ينصب على المجال اللغوى الأسلوبى، ويشمل اللهجة وبعض الجوانب الشكلية.
كما كانت الصورة من قبل فى أذهان الجميع عن أئمة المساجد صورة مغلوطة وخاطئة، ربما ساهمت فى صنعها تلك النظرة المتدنية التى كانت تقدمها الأعمال الفنية عن رجل الدين، سواء كان إمامًا لمسجد أو داعية، ولا يهم إن كان يحدث ذلك سواء عن قصد أو بدون قصد، لكن أعتقد أن إعادة منظومة العمل الدعوى التى قادها باقتدار الدكتور مختار جمعة قد استطاعت بالفعل فى تصحيح تلك الصورة، فأصبحنا نرى تلك الفئة من الدعاة والأئمة وهم ينخرطون فى الحياة السياسية، وهم على هذا النحو من الاستنارة، لكن والحق يقال فإن تلك الصورة تكاد تكون قد اختفت تمامًا على يد الدكتور جمعة الذى وضع على عاتقه إعادة الاعتبار لتلك الفئة التى ظلمها المجتمع كثيرًا من قبل، بسبب تلك الصورة المغولطة، وأيضًا بسبب ما كان يحدث من خطاب عنيف ومتشدد يصدر من أئمة فوق المنابر.
إن تلك الصحوة التى أحدثها الدكتور مختار جمعة فى وزارة الأوقاف قد أتت بالخير الذى لا ينكره إلا من كان قلبه مليئًا بالسواد، فالرجل تحمل الكثير والكثير من الصعاب من أجل إعادة الاعتبار للأئمة والدعاة، وقطع الطريق أمام أصحاب الفتاوى الهدامة، ودعاة الفتنة والتعصب والتطرف.
وأعتقد أن التاريخ سوف ينصف هذا الرجل الذى تحمل ما يفوق طاقة البشر من هجوم على شخصه من جانب قوى الإظلام التى تمكن فى النهاية من القضاء عليها، ومنع صعودها فوق المنابر، بل قام بقطع ألسنتها التى طالما بثت سمومها بين البسطاء الذين كانوا مغلوبين على أمرهم، وكانوا يتلقون فتاوى الشر دون أن يكون لديهم أدنى شك فى خبثها.. لكن لا يصح إلا الصحيح، فعلى الرغم من كل تلك الحروب التى واجهها الدكتور مختار جمعة، وعلى الرغم من كثرة السهام التى تلقاها من هؤلاء الذين يسيئون إلى الإسلام والمسلمين، فإنه نجح فى نهاية الأمر فى أن ينظف المساجد منهم..
وهنا يحضرنى قول الله عز وجل فى سورة الأنفال: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} صدق الله العظيم.