إن الواقع يكشف أن هناك جملة من الصعوبات التى تعترض سبيل التعارف، لكن من شأن البحث الجاد والمؤمن بتعارف الحضارات وجدواه على مستقبل الإنسانية، الوقوف عند هذه المعوقات ليس بغرض تثبيط العزائم والهمم، وإنما للبحث فى كيفية تجاوز هذه الصعوبات وتذليلها لتحقيق جملة الأهداف والآفاق التى يسعى التعارف لتحقيقها وأنا أطرحها على القارئ الكريم لتأملها والتفكر فى كيفية التعامل معها، فمن بين هذه الصعوبات على سبيل المثال :
التطورات التكنولوجية الهائلة: التى ميزت القرن العشرين وأضحت القوة البديلة للقوى المهيمنة فى السابق، فوسائل الإعلام والاتصال الحديثة (والتى يهيمن عليها أصحاب المصانع والإمبراطوريات المالية والصناعية والتجارية الكبرى وأصحاب عقيدة معاداة تآخى الإنسانية)، باتت تصنع وتنشر أفكار الحرب والسلم والخوف والرعب والأنانية والكراهية وغيرها من الأفكار السلبية التى ترسخ الرفض ليس فقط بين الحضارات المختلفة وإنما بين أبناء الحضارة الواحدة، ولتجاوز هذا العائق يتعين على المؤمنين بحتمية إنشاء وسائل تواصل بلغات العالم المختلفة ليتسنى لأبناء مختلف الحضارات التواصل حول القضايا الكبرى التى تشغل بال الإنسان المعاصر تحت شعار التعاون والتعارف والتنوع والتعدد الثقافى، وإنشاء منتديات فكرية عالمية تضم النخب المؤمنة بالتعارف الداعية لتفعيله من خلال أنشطة ومنشورات ثقافية لتحقيق التقارب وفضح مغالطات وإدعاءات وسائل الإعلام المضللة الموجهة من أى طرف، وتوجيهها نحو التعايش مع الحضارات الأخرى.
العائق الدينى: إذا كان الدين يمثل جوهر كل حضارة، والالتفاف حول المعتقد فى حالات الشحن والتعبئة العاطفية أو المقابلة الفكرية بين المعتقدات حقيقة مشهودة، فهذا يضيق مساحة العقل لمواجهة المسائل بموضوعية هنا يبرز التعارف باعتباره "مبدأ إسلامى" يدعو بالّتى هى أحسن حيث لا إكراه فى الدين فالغاية من التعارف ليست نقل أهل دين إلى دين آخر كما يعتقد معظم المسلمين خطأً، والحقيقة أن الهدف الأساسى للتعارف هو التطلع إلى بحث القواسم المشتركة بين الحضارات كرفض الظلم وطلب الحرية والعدل ومحاربة الاستغلال بكل أشكاله وغيرها وهى مما تلتقى القيم الحضارية السوية والعقول السوية على رفضها، ولهذا فإن من أهم غايات تعارف الحضارات هو (احترام الخصوصيات الحضارية): التى تميز كل حضارة عن الأخرى فتشكل الحضارات تنوعًا فسيفسائيًا من الثقافات يغنى الحضارة العالمية وتبقى مسألة الأخذ والترك منها محل اختيارات إنسانية تقديرية تكيفها كل حضارة مع ما تراه متناسبًا مع أوضاعها وقيمها ومرحلتها الحضارية، فتستنفر قواها الإبداعية فى هذا الجو المتفاعل حضاريًا لتطوير نفسها داخل نسقها الحضارى، وبعيدًا عن مضار العزلة والتقوقع فتخرج الحضارة الإنسانية من الأحادية الحضارية ويعرف العالم تجربة التعددية الحضارية التى تزدهر فيها قوى الإنسان وقدراته الإبداعية، وتتخاطب الحضارات والثقافات بلغة المنافسة الشريفة يطوى معها منطق الصراع والصدام والغلبة المبيدة والتبعية الذليلة.
ولتحقيق ذلك يجب على العقائد غير النقية من آفات الكراهية أن تكيف عقائدها مع غيرها وأن تصحح ما تنطوى عليه من أفكار العنف والرفض، وهنا يجب أن نعترف أن الخطاب الدينى الإسلامى قد أصابه الكثير من الخلل وهو فى حاجة إلى مراجعة شاملة تُحدث ثورة فكرية دينية تصحيحية ويجب أن يحدث تعاون لتحقيق ذلك بين المؤسسات الدينية والمؤسسات المتخصصة فى العلوم الإنسانية والتربية.
تضخيم الذات الحضارية: والمقصود به الادعاء بتفوق حضارة ما، ما يؤدى إلى الشعور بالتفوق والعظمة المفرطة لديها ولتجاوز هذه العقدة ننطلق من أن الحضارة إنجاز بشرى مشترك، ونصرف الجهود نحو إفادة الحضارات من إيجابيات بعضها بعض لفائدة إنسان المستقبل والتفكير فى نظرية مستقبلية للتكامل الحضارى يتخلق لها المنظرون بخلق التواضع بوصفه خلقا إنسانيًا ساميًا وعلميًا مطلوبًا، ولهذا فإن من أهم الغايات التى يحققها تعارف الحضارات هو : معرفة الآخر على حقيقته وتصحيح الصورة المسبقة عنه فكثيرًا ما رسمت الحضارات صورا نمطية لغيرها من الحضارات، فلا تنظر إليها إلا من خلال تلك الصورة وتخضع حسابات التعامل معها لمقتضاها وكثيرا ما تكون تلك الصورة مغلوطة لعدة أسباب , ويجب تشجيع فكرة الانتفاع المتبادل من خيرات الأرض من خلال التعاون، فالرؤية الإسلامية تنطلق من عقيدة أن الله لم يخلق الأرض لنسفك الدماء، بل لينتفع كل فريق بخير ما عند الفريق الآخر، فإذا كانت الأرض مختلفة فيما تنتجه، فالإنتاج كله للإنسانية كلها . وهذا توجه يخالف سلوك الحضارة الغربية المعاصرة القائمة على أبشع صور الاستغلال وتبريره بدعاوى التقدم.
نظريات الصراع والصدام بين الحضارات: الواقع يثبت أن الحضارات عرفت فترات كثيرة من الصراع والصدام سواء المادى أو المعنوى إلا أن ذلك لم يكن اختياراً حراً لأبناء شعوب الحضارات دائمًا، بل فى أحيان كثيرة يأتى تلبية لرغبة طغيان سياسى أو عسكرى أو مالى أو فئوى أو اضطراراً لمواجهة هذا الطغيان، أما المبادئ والقيم الحضارية فأكثرها ينحو منحى السلم والتعايش واحترام الإنسان , ولتخطى هذا العائق علينا إنضاج الأفكار حول نظرية السلم والتعاون بين الحضارات ومواجهة فلسفة الصراع والصدام التى رسّخها فى الفكر الغربى المعاصر كل من (فوكوياما) و(صموئيل هانتينجتن) بإطلاعنا على صدام الحضارات المحتّم والتى تعنى بنحو خاص صدام الأديان، وكذلك تصحيح الفكرة الخاطئة التى يروجها الخطاب الدينى الإسلامى المعاصر والتى ترسخ: أن قيام الحضارة الإسلامية ونهضتها لابد أن يسبقه انهيار حضارة الغرب وغيرها من الحضارات، والحقيقة أن البشر أكثر ميلاً إلى المسالمة والموادعة ولأن فترات السلم بين الأمم والحضارات أطول من فترات الحرب، كما أن جميع الأديان بدورها تدعوا إلى السلم والتآخى والقيم الإنسانية والإيجابية، فإذا كانت فكرة صدام الحضارات تقوم على المغالبة حيث الدنيا لمن غلب فإن فكرة تعارف الحضارات تقوم على المصاحبة حيث (الدين المعاملة)ـ يؤسس الإسلام تعارف الحضارات على قيمتين هما : واجب الاعتراف بأهمية الآخر، وحق الاختلاف عن هوية الآخر، وهنا يصبح التعارف ليس مجرد إطلاع على ما عند الآخر، بل هو فى جوهره اقتناع بعدم احتكار الحقيقة تأسيسا لمشروعية الأخذ والعطاء دون تكبر من المعطى ودون تنكر من الآخذ.
هيمنة المفهوم السياسى فى مجال العلاقات الدولية: وهو مجال كما لا يخفى تحكمه مبادئ المصلحة وفرض شروط الأقوى وأحادية النظرة فى تحديد المفاهيم وتفسيرها على حساب القيم العليا للإنسانية، ولهذا يتعين على رواد التعارف الحضارى صياغة مفهوم جديد للعلاقات بين الشعوب والأمم، يتأسس على ثقافة إنسانية سامية تترفع على المصالح الآنية الضيقة والجشعة بمعنى أصح صياغة دستور إنسانى للعالم هذه أهم الصعوبات التى تواجه فلسفة التعارف بين الحضارات وفى نفس الوقت بعض المقترحات لتجاوزها .
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة