تعلمت مصر من صلابة الحجر الصبر والثبات، ومن تدفق النهر السماحة والعُذوبة، ومن ثمار الأرض الرحمة والكرم، ومن براح الصحراء سعة الأفق وقوة الاحتمال، ومن توالى المحن فنون السخرية للترويح عن النفس، والسيف الناعم على رقاب الغزاة والطُغاة. هذا هو «الكود المصرى» الذى يجهله كثيرون حتى من المحسوبين عليها كمواطنين بأوراق رسمية فقط دون ملامسة روحها.
والمحبّة فى ضمير المصرى تتقدم على العدالة، لأنها لو سادت فلن نحتاج للشقاق والتقاضى، فالمحبة تجمع شتى الأطياف، وتصنع البهجة، وتُحرض على عشق الحياة لدرجة جعلت مصر موطن الخلود، وأول صوت يُعلم الأمم الحساب والثواب والعقاب، بميزان «ماعت»، تلك الريشة التى تكشف نقاء القلوب وما تُضمره النفوس.
وهنا على ضفاف النهر شهد العالم «صناعة الضمير» الذى استفاض بشرحه وتشريحه جيمس هنرى بريستد فى كتابه «فجر الضمير»، تلك الحكمة التى أدركها المؤرخ الكبير فكتب بوجدانه وعقله ورصانته ما لا يدركه بعض المصريين عن فضل بلدهم على العالم.
بالعودة للحاضر، أؤكد استنادا لقراءتى المنهجية لتاريخ مصر أنها قد تشقى لكنها تُشفى، وربما تمرض لكنها لا تموت، وقد تسقط فى قبضة الغزاة، لكنها لا تلبث أن تُدجّنهم أو تلفظهم، وتبقى رمزًا للعطاء فتمنح الإنسانية إيزيس وأوزيريس وإيموحتب وأوريجون وأنطونيوس وأثناسيوس والشافعى وذو النون والعزّ بن عبدالسلام وغيرهم.
وكم أبتليت مصر بمن لا يعرفون قدرها وفضلها، فصبرت عليهم وقاومتهم حتى دفعتهم لكتابة نهايتهم بأياديهم، كما حدث مع الغُزاة من الهكسوس حتى المماليك، وبالمقابل عرف بعض الغرباء قدر مصر ومكانتها فاحتضنتهم وتفاعلت معهم لتصنع حضارات تزهو بها، كما حدث مع الفاطميين القادمين من شمال أفريقيا، والكردى صلاح الدين الأيوبى، والألبانى محمد على الذى وضع أساس الدولة العصرية، وجعل حدود مصر تمتد من قلب أفريقيا حتى الشام وتخوم أوروبا، وفى عهده وخلفائه اتسع صدر مصر لليهود والأرمن واليونانيين والروم والشوام والأفارقة، الذين انصهروا فى بوتقة مصر، لأنها لم تكن يومًا عنصرية، بل «مُهرة» أصيلة لا يليق لها سوى الفرسان، الذين يعرفون قدرها.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة