نحن نرتاح لوصف أنفسنا بالشعب الطيب الرحيم المسالم، ويعتقد البعض أن تاريخنا كله كذلك، وكأننا ملائكة نزلت إلى الأرض ونسيت الأجنحة فى السماء.
والحقيقة أن هذه الصفات كانت إجبارى معظم الأوقات «مش اختيارى» فقد كنا دولة محتلة دائما من أجانب ومستعمرين، ولم نكن بطبيعتنا النيلية نميل للحروب أو النزاع أو حتى الثورات، لذلك كان التسامح و المسالمة هما الخيار الأوقع والأضمن لاستمرار الحياة، بدليل أن كل هذه الصفات الحالمة تتحول إلى كوابيس قاتلة فى المجاعات، وانتشار الأوبئة والأزمات الاقتصادية الطاحنة، فيحكى لنا المقريزى فى كتابه «إغاثة الأمة بكشف الغمة» أن المصريين كانوا يأكلون بعضهم البعض فى سنوات المجاعة إبان حكم المستنصر، فكانوا يحتشدون حول الضعفاء والأطفال والنساء ليتخاطفوا أجزاء من أجسادهم ويأكلوها، هذه الحكاوى المرعبة ذكرها أيضا كبار المؤرخين كالأسيوطى والنويرى وابن تغرى، وهذا ليس بغريب فى أى مجتمع يتعرض للمجاعات، فهذه السلوكيات الحيوانية المتوحشة ظهرت فى مجاعات الصين وإيرلاندا وروسيا، وأنا لا أذكر هذه الحقائق التاريخية لأصيبك بالتقزز والقرف، بل لأثبت لمعاليك أننا ناس طبيعيون مسالمون بالفطرة، ولكن الجوع كافر، فلا داعى للولولة واللطم على طيبة المصريين وجمالهم ورقة مشاعرهم، فالجوع والفقر والجهل هم الأصل فى انتشار العنف والعدوانية بين كل أنواع البشر، لا فرق هنا بين أوروبى أو أمريكى أو مصرى، والسبب الرئيسى لانتشار العنف والقسوة فى سلوك المصريين بعد الثورة هو زيادة نسب الفقر وانعدام فرص التشغيل وانخفاض المستوى المعيشى للطبقات الفقيرة أصلا، فجاء الكساد الاقتصادى الذى واكب سنوات الثورة ليزيدهم هم على هم وليحولهم من فقراء إلى بؤساء، بالإضافة إلى الانفلات الأمنى واختفاء الضوابط القانونية من الشوارع، أضف إلى ذلك الضجيج الإعلامى الموجه لتوليع الأحداث، وخلق صراع طبقى وسلوكى بين الجميع، كل ذلك خلق بيئة متميزة لإنتاج حيوانات آدمية، وسواء جاء ذلك بقصد وأد الثورة أم جاء بحسن نية، فإن النتائج النهائية منيلة بستين نيلة، ولا أتصور طريقة للقضاء على هذا العنف إلا توفير فرص عمل و تشغيل الشباب ودعمهم فى الحصول على مساكن تؤهلهم للزواج وإقامة أسرة وشغل أوقاتهم بالإنتاج، بدلا من تعاطى مختلف أنواع الهباب، وكلما تأخرنا فى ذلك فلا داعى أن نتعجب من حوادث التحرش بالنساء أو بموت العشرات فى الخناقات أو بتجمع شباب بحجم الثيران لذبح كلب مكبل بالغلال.