رغم ما يواجهه العالم العربى الآن من مشكلات حادة من قبيل تفكك بعض الدول، ودخول أخرى فى حروب أهلية وفوضى، فمن العبث أن يترك «القوميون العرب» نضالهم الفكرى والحركى الذى امتد قرابة قرن كامل ينتهى إلى فشل ذريع، أو ينسحب إلى الهامش، مكتفيا بمتابعة محايدة باردة لما يجرى من تشكل للأفكار والسلوكيات السياسية فى العالم العربى، ابتداء من تغيير اصطلاح «الوطن العربى» إلى «العالم العربى» ثم هبوطه إلى «المنطقة العربية» وانتهاء بطرح مشروع خارجى يتمثل فى «الشرق أوسط الموسع»، الذى تم رسم حدوده، وتعيين أهدافه، لينهى «النظام الإقليمى العربى» سياسيا واقتصاديا وثقافيا، ويجعل من «العروبة» مصطلحا تاريخيا. ومن العبث أيضا أن يعتقد القوميون أن الحل يتمثل فى إعادة الزمن إلى الوراء، والتمسك بأفكار وأعمال ثبت خطؤها، ومخاصمة السياق الجديد الذى يفرض نفسه على العرب، شاءوا أم أبوا، والذى ساهموا هم أنفسهم بصنعه، أو استحضاره، عندما قامت مجموعة «عربية متطرفة» بضرب الإمبراطورية الكبرى بعالمنا المعاصر فى عقر دارها، مقدمة لها ذريعة جديدة على التوحش العسكرى، بعد سنوات من التوحش الاقتصادى، المتوسل بالرأسمالية الاحتكارية.
ومن الخطيئة أن يتصور القوميون أن النضال ضد أى مشروع، يرمى إلى هضم العرب، يقوم على الاكتفاء برفض ما هو مطروح، بحناجر مدوية، وكتابات مشحونة بالعاطفة الخالية من أى منطق، أو تفكير عقلانى واقعى، يقوم على حسابات دقيقة، لما بين أيدينا، وما لدى الآخرين، وعلى فهم ودراية كاملة بمتطلبات مرحلة لا تقبل ذهنيات وسلوكيات عفا عليها الزمن. فمن دون ذلك سيزداد العروبيون غربة فى بلادهم، وتصبح أطروحاتهم عن الأمة الواحدة الممتدة جغرافيا من الخليج إلى المحيط، وتاريخيا من عدنان وقحطان إلى جامعة الدول العربية، وثقافيا واجتماعيا من لغة الضاد إلى أغلبية تدين بالإسلام، مجرد أضغاث أحلام، لا تلبث أن تذوب أمام شمس حارقة بحقائق مغايرة. ومن دون ذلك ستخسر هذه البقعة الجغرافية من العالم، التى تمثل مهبط الرسالات السماوية ومهد الحضارات الإنسانية، جهد ملايين المخلصين، الذى آمنوا بفكرة شغلت لفيفا من المفكرين والسياسيين، منذ عبد الرحمن الكواكبى وحتى اللحظة الراهنة، ودفع لأجلها مئات الملايين ثمنا باهظا، لأن «الإخلاص» وحده لا يكفى، بل يجب أن يقترن بالصواب، الذى يحوله من طاقة عاطفية هادرة إلى تصورات قابلة للتطبيق، وقادرة على حل المشكلات الطارئة والمزمنة، وتحويل الهزيمة إلى نصر، والتخلف إلى تقدم، والقعود إلى نهوض.
هنا باتت الحاجة ملحة، والساحة مهيأة، لميلاد تيار قومى آخر، يستفيد من أخطاء الماضى، ويرنو إلى المستقبل بثقة بعد أن يمتلك شروط ميلاد الغد على أكف الحاضر من دون عنت ولا عناء. إنه تيار يمثل «قوميون جدد» يختلفون فى الاستراتيجية عن «الليبراليين الجدد» الذين ينظر إليهم فى وطننا العربى على أنهم «حصان طراودة» الذى يريد أن يعيد الاستعمار إلى بلادنا، أو يرهنها للقوة الكبرى فى العالم، بعد مسخ ومسح هويتنا وخصوصياتنا، الممتدة من بطون الكتب المقدسة، إلى الأفكار والتقاليد والعادات الراسخة فى عقولنا، والتى لا يمكن لمنصف أن يقول إنها شر محض، أو أن كلها واجبة الدفن.
لكن «القوميون الجدد» يجب أن يتخلوا عن رمى كل من يخالفهم الرأى بالخيانة والعمالة، بل عليهم «التوقف والتبين» بلغة بعض الجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامى، أمام كل حالة على حدة، إذ إن من بين الليبراليين العرب، حتى «الجدد»، من يعتقد مخلصا أن ما بين جوانحه من عواطف، وما فى ذهنه من أفكار، وما فى سلوكه من مواقف إنما هو معالم الطريق المثلى للنهوض ببلادنا. ونكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
مقال رائع جدا - ليس امامنا الا النجاح فهل نعى مقومات النجاح ام نستمر فى الهروله نحو الفشل
بدون
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
بالفعل نحتاج تيار قومى جديد قادر على النهوض ببلدنا فى شتى المجالات وتحقيق الاستقرار والامن
يدون
عدد الردود 0
بواسطة:
د. عادل قاسم
كيــف .. ؟؟ وهل من مبــادرة.. ؟؟