تأييد السلطة المطلق فى الخطأ قبل الصواب هو طريق أسلم للحصول على المكاسب، ونيل الرغائب، وتعبيد الصعاب.. هكذا لأن من يصل للسلطة دائمًا لا يحب المناوءة ولا المعارضة ولا النصح أو الإرشاد، حتى وإن كان نصحه يخدم مصلحته، حتى وإن كان الجميع يعلم أن المنافقين هم «حانوتية» أى حاكم، وهم عادة من يصحبونه دومًا حتى يصل إلى الهاوية، لكننا هنا نتحدث عن نوع مفهوم ومعذور من المنافقين، تلك الفئة التى تستفيد من نفاقها، وتجنى من خلفه المال أو السلطة أو الشهرة أو الحظوة لدى الحاكم، هناك فئة أخرى من طبالين السلطة، ألا وهى فئة «الجرابيع».
تقف مشدوهًا أمام شخص ليس مقربًا من دوائر السلطة، ولن يستفيد من خلف نفاقه وتطبيله شيئًا، وهو لا يحظى من السلطة التى يرقص لها، ويبرر لها دومًا سوى بالفُتات وربما بأقل من الفُتات، يورط نفسه فى تبريرات لا أخلاقية، تجده يبرر القتل، والظلم، والقهر، والسرقة، والتزوير، والحقيقة أنه غير مستفيد البتة! هناك أناس آخرون يسوقون نفس التبريرات، لكن عذرهم فى هذا التدنى الإنسانى هو أنهم يتقاضون الملايين فى المقابل، لكنك تتساءل: هذا المواطن العادى الذى لن يجنى شيئًا من وراء انحطاطه، لماذا يصر على كل هذا الانحطاط؟
هل تعلم شيئًا عن ناظر الزراعة الذى حفل التراث المصرى بذكره غير المحمود؟، هو فلاح شأنه شأن بقية الفلاحين الأجراء، كان دومًا يعمد إلى استخدام كل الأساليب المنحطة لتعبيد «الأنفار» لصالح الباشا، هو لا يستفيد من ذلك شيئًا البتة، فهو لن يسكن السرايا، ولن يتملك الأرض، لكنه يظن بدخوله فى ركب الباشا- الذى لا يشعر بوجوده ابتداء- أن ذلك سيرفع من شأنه بين أهله وذويه، وسيضفى عليه سمت علية القوم.. هو يعلم أنه ليس من علية القوم، لكنه يريد أن يبدو كذلك بين أقرانه من المستضعفين، أو زنجى المنزل، وهو الذى وصفه مالكوم إكس بأنه أحرص على صحة سيده من سيده نفسه، وهو الذى يضحى بنفسه لإطفاء حريق نشب فى بيت سيده، بينما يهرب سيده من الحريق.
فى مجتمعنا الذى يتمتع بمرض الطبقية ضمن أمراض عدة يعمد بعض الناس ممن نبتوا من أصول مستضعفة، وتمكنوا من تحقيق أحلام محدودة لتحسين المعيشة، إلى تأييد السلطة تأييدًا مطلقًا، هم يفعلون ذلك لأنهم يظنون أن تأييدهم للسلطة يضعهم فى مصاف علية القوم، ويمحو أصولهم الفقيرة، ولا عيب فى أن تكون فقيرًا، وتمكنت من بناء نفسك بجدك ومالك... بس اقنعهم بكده بقى! هم يريدون اختلاق تاريخ للعائلة غير موجود، تجد بعضهم يردد: «يخرب بيت مجانية التعليم اللى خربت البلد.. منه لله عبدالناصر اللى أمم الأملاك». ولو بحثت فى أصولهم لوجدت أنه لولا مجانية التعليم اللى خربت البلد لما تمكن والد المتحدث من التخرج فى الجامعة، والسفر إلى الخليج، وجمع المال، ليدخل أبناءه مدارس لغات، ولولا تأميم عبدالناصر للأملاك لكان مصير المتحدث هو العمل بالأجر الزهيد فى أراضى الإقطاعيين، وبدلا من الافتخار بأنه من عائلة كريمة وفقيرة تمكنت من مال حلال، ومن تعب وكد وشقاء أن ترتفع بشأنه، ومن ثم وجب عليه التضامن مع كل المستضعفين الذين يذكرونه بجده ووالده، فإنه يتبرأ من أصوله التى هى أشرف ما فيه، وينجرف فى تأييد وتبرير لكل ظلم، لا لأنه لا يعلم بإن هذا ظلم، بل لأنه سعيد بأنه أخيرًا ترك صف المظلومين لينضم لصفوف الظالمين، ولسان حاله: «هييييه.. أنا بقيت ظالم، الحمد لله».