ناجح إبراهيم

أم أشرف.. وعجائز نيسابور

الخميس، 19 مارس 2015 09:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كتبت كثيرًا عن أمى، رحمها الله، التى أعطت ولم تستبق شيئًا، واليوم أكتب عن أمى الثانية، وهى شقيقتى الكبرى «نوال» التى يعرفها معظم أهل بلدتنا كعابدة وزاهدة باسم «أم أشرف»، والتى أعتبر حياتها نموذجًا مشرفًا لكفاح المرأة المصرية، فقد أخرجها أبى سريعًا من الدراسة، وزوجها لأحد تجار الغلال من جيراننا، والذى ينحدر من أسرة عريقة فى هذه التجارة والتدين، وذلك لأن جدى لأبى كان تاجرًا للغلال، وكانت تجارة الغلال من أكثر التجارات رواجًا فى مصر حتى جاءت ثورة يوليو 1952 فضربتها فى مقتل، وخربت بيوت تجارها الكبار والصغار، إذ ألزمت المزارعين تسليم الحبوب للجمعية الزراعية، تقليدًا للاتحاد السوفيتى والفكر الاقتصادى الاشتراكى، وبعدها لم يجد زوجها بدًا من السفر للعمل بالسعودية مطلع السبعينيات.. كانت «أم أشرف» هى مخزن أسرارنا ومشاكلنا ونحن غلمان وشباب، وكنا نكثر الذهاب إليها لأنها تسكن بجوارنا، وكانت كريمة وسخية مع الجميع، واليوم ونحن على أبواب الشيخوخة نجتمع فى بيتها، ونذهب إليها بديلاً عن والدينا اللذين رحلا منذ سنوات.

تحملت غربة الزوج سنوات طويلة بصبر ورضا، ثم عاد زوجها من السعودية بعد سنوات الغربة الثقيلة، لم تضجر خلالها أو تشكو لأحد صعوبة الفراق.. عاد عمى قاسم كما كنا نسميه بتحويشة العمر، فشرع فى بناء بيت خاص به، ثم اشترى سيارة نقل قلاب جديدة كمشروع للمستقبل، لكن الأقدار لم تترك هذا البيت ليستريح قليلاً، فقد غرق عم قاسم فى ترعة الإبراهيمية وهو يركب إلى جوار سائق نقل يقودها دون فرامل، فنجا السائق وغرق الرجل الطيب، لتبدأ أكبر مأساة فى حياة «أم أشرف» التى ودعت زوجها وهى فى بداية الثلاثينيات من عمرها..بعد انتهاء الأحزان شمرت ساعد الجد لتربية أولادها من عائد السيارة الجديدة، لكن سائق السيارة أبى إلا أن يستولى على عائدها كاملاً ودون رحمة، متذرعاً كل يوم بحجج شتى، فلم تجد «أم أشرف» أمامها سوى خيارين، إما أن يترك ابنها الأكبر أشرف التعليم، أو أن تبيع السيارة التى لم تسدد كل أقساطها بعد، وكان صاحب صالة السيارات رحيمًا فقدر ظروفها وقبل الصفقة التى لا يقبلها عادة، ورد إليها مقدمات السيارة.

وبدأت رحلة الكفاح لتعليم وتوظيف ثلاثة من الأولاد وبنت واحدة، وحاولت أن تتاجر فى أى شىء من منزلها.. وتخرج الابن الأكبر ونال وظيفة جيدة فى إحدى شركات الأدوية، واستطاع بعد ذلك أن يمتلك صيدلية، ثم تلاه الثانى الذى فتح الله عليه فى التجارة والوظيفة معًا، وتخرج الثالث مدرسًا، لكن الأقدار أبت إلا أن تعود للكفاح مرة أخرى بعد أن ظنت أنها وصلت لشاطئ الأمان، فاعتقل ابنها أيمن فى بداية التسعينيات، فظلت تجرى خلفه، وتنتقل وراءه من سجن إلى آخر، وكان من عادة مصلحة السجون وقتها تشتيت أسر المعتقلين بوضع معتقلى الوجه القبلى فى سجون دمنهور ووادى النطرون، ومعتقلى الوجه البحرى فى الفيوم والوادى الجديد، فكانت تقطع مسافة تقارب ألفى كيلومتر ذهابًا وإيابًا مع مجموعة من الأمهات والزوجات ليصلن لسجن وادى النطرون.

كانت الرحلة شاقة والسفر بالميكروباص يستغرق الليل، وكانت كل أم أو زوجة تحمل ما لذ وطاب من الطعام، وكانت بعض مكونات الزيارة الغالية تسرق وهى فى طريقها للمعتقل. وأذكر أن مئات الزيارات كانت تأتى عبارة عن رأس الفرخة والأرز فقط فى بداية الثمانينيات ومنتصف التسعينيات مما يدعو لسخرية المعتقلين، وتأليف النكات اللاذعة حول تلك الرؤوس التى تصل وحدها. مضت عشر سنوات ليخرج أيمن ويتزوج، وكذلك شقيقته الصغرى لتبدأ مرحلة جديدة فى حياة الجدة «أم أشرف» وهى مرحلة تربية الأحفاد، فقد تسلّمت جميع الأحفاد لتربيتهم يوميًا من الثامنة صباحًا وحتى الثالثة عصرًا، وهو موعد عودة أمهاتهم من وظائفهن.. كبر الأحفاد وتزوج بعضهم، ومازال بعضهم فى رعايتها، بعدها تفرغت تمامًا للعبادة التى أحبتها منذ صغرها، فلم يفتها درس دينى فى المسجد القبلى منذ وفاة زوجها حتى أصبحت المسؤولة الشرفية عن مسجد النساء، تفتحه قبل الفجر بساعتين لمن تريد التهجد أو القيام، وتفتحه مرة أخرى فى الظهيرة، كانت لا تترك صلاة فى المسجد.. شاركت بقوة فى مشاريع رعاية الأيتام التى تقيمها الجمعية التى يشرف عليها إمام المسجد.. تقدم بها السن، لا تستطيع الآن التحرك بسهولة ويسر كما كانت، أصبحت تذهب إلى المسجد بصعوبة، لكنها لا تترك صلاة الفجر، تصلى القيام دائمًا، تصوم النوافل. حينما أتأمل حالى وأنا الذى ألفت أكثر من 25 كتابًا وآلاف المقالات وأقارنه بحال «أم أشرف» ذات التدين الفطرى الطبيعى الذى لا يعرف التكلف أو التشدد أوقن بكلمات حجة الإسلام أبوحامد الغزالى «ياليتنى أموت على ما ماتت عليه عجائز نيسابور»، فأقول يا ليتنى أكون مثل أمى وأمى الثانية «أم أشرف» وعجائز نيسابور، حيث لا تعرف قلوبهن إلا الحب للناس جميعًا.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة