فى منتصف الأربعينيات من القرن الماضى كان رجل ستينى عجوز يعيش سنواته الأخيرة فى منزل من الطوب اللبن بريف مصر الفقير، بعد أن توفيت زوجته، وانشغل عنه أولاده بأحوال الدنيا، فعل كل شىء صالح فى الحياة، حتى إنه حج بيت الله 7 مرات، لدرجة أن أطلق عليه أهل قريته «عبدالحميد الحاج»، كان يسافر فى 3 أشهر بالجمال، ويمكث بمكة 3 أشهر، ويعود فى 3 أشهر، وفى الأشهر المتبقية من العام يستعد لجولة السفر الجديدة.
أقارب الرجل الستينى العجوز اقترحوا عليه الزواج، ليس الزواج بمعناه الشامل، لكن لكى يجد سيدة تخدمه فى سنواته الأخيرة، ويا حبذا لو كانت سيدة لا تنجب، دار البحث أيامًا وأسابيع حتى وقع الاختيار على سيدة فى نهاية الثلاثينيات من العمر، سبق لها الزواج ولم تنجب، أو بالمعنى الأصح «مالهاش فى الخلفة»، وسريعًا ما تحرر عقد الزواج، وكانت المفاجأة أن السيدة «اللى مالهاش فى الخلفة» أنجبت من الرجل الستينى، وكانت المفاجأة الثانية أن الرجل العجوز مات قبل أن يتم ابنه الصغير أيامًا معدودات، وتحملت السيدة مسؤولية تربية ابنها، وحبًا منها فى زوجها الراحل أسمت ابنها الصغير «عبدالحميد» على اسم الزوج، وكانت تخاف على ابنها الصغير وتحوطه، حتى إنها فى بعض الأوقات وضعت «حلقًا» فى أذنه، لكى تخفى عن مسامع الناس أنها أنجبت ولدًا، فى أسلوب متبع بتقاليدنا الريفية.
عاشت السيدة سنوات طويلة وحيدة مع ابنها، هدفها الوحيد أن يكون رجلًا «زين يملى العين» وتكون لديه عائلة كبيرة يعيشون فيها حياة جماعية بعيدًا عن حياة الوحدة، وهو ما دفعها أن تزوج ابنها وهو فى السادسة عشرة من العمر، حتى أن ابنها استخرج البطاقتين العائلية والشخصية فى وقت واحد.
الصغير كبر وتزوج، لكن مازالت الوحدة تسيطر عليه، فكان قراره الإنجاب كثيرًا، وهو ما كان، أنجب من الأبناء 9، 5 بنات و4 أولاد، ومع كل مولود جديد ينضم للعائلة كانت السيدة تفرح وتعبر عن مزيد من السعادة بزغروتة الفلاحين الشهيرة. حتى بعد إنجاب 9، كان الابن لا يأخذ قرارًا إلا بعد العودة لوالدته، يناقشها ويجادلها، سواء كانت لديها خبرة بموضوع القرار أم لا، هو تعوّد على أنها ميزان حياته، وباب خيره الرئيسى فى الدنيا، هى من فتحت له فى سن العشرين مستودعًا لبيع الدقيق، وهى من وقفت إلى جواره لكى يبنى منزلًا جديدًا فى نهاية السبعينيات، وهى من كانت تساعد زوجته فى تربية الأولاد وقت أن كان الابن والزوجة يسعيان فى الأرض وراء الرزق و«لقمة العيش».
ماتت الأم فى بداية التسعينيات، وكانت الوفاة كالفاجعة للابن، رغم أنها مرضت أشهرًا طويلة، لكن الفراق وحالة الحب بين الأم والابن لم تكن أبدًا سهلة عليه، ولا حتى على أبنائه الذين تعلقوا بها، مثلما تعلقوا بوالدتهم بالأساس.. العجوز الستينى فى القصة هو جدى «الحاج عبدالحميد الحاج»، والسيدة هى جدتى «الحاجة تفيدة»، والابن هو والدى رحمة الله عليه «عبدالحميد عبدالحميد الحاج».. فى مناسبة عيد الأم أقول لجدتى، أمى الكبرى، لولاك ما كان أبى، لولاك ما كنا.. ألف ألف شكر.