هناك على ترابيزة المبدع وحيد حامد، فى أحد الفنادق الكبيرة المطلة على النيل، كثيرا ما كنت ألتقى النجم المبدع والظاهرة الفريدة، التى لن تتكرر فى السينما المصرية والعربية أحمد زكى، والذى تحل ذكراه الـ 10 فى 27 من مارس الجارى وكثيرا ما كان يأتى ليشاركنا محاضرات السيناريو، حيث كان الكاتب الكبير مشرفا على دفعتنا بمعهد السينما، وبالطبع حضور زكى كان كفيلا بأن يأخذ المحاضرة إلى منطقة أخرى عن الفن وأدواره، وكيف يعمل عليه وكان حضوره الطاغى والآسر يجعل عيوننا جميعا تلتف حوله، خصوصا أن العلاقة بينه وبين وحيد حامد كانت مميزة وممتدة ومليئة بالمشاكسات، ولن أنسى تلك المرة التى صادفت فيها النجم الأسمر ووقتها كان مرشحا للقيام ببطولة فيلم "سوق المتعة" قبل أن يذهب العمل إلى النجم محمود عبد العزيز، وكان زكى مبهورا بالسيناريو ينام ويستيقظ، وهو فى حضنه وذلك كان تعبيره الذى استخدمه فى وصف علاقته بالعمل.
دخل علينا ونحن جالسين حول الأستاذ وبحماس شديد كان يحدثه عن أحد المشاهد فى سيناريو الفيلم، والذى ظل طوال الليل يعمل عليه، ويتصور كيفية تنفيذه وكان المشهد بالتحديد (بعد خروج بطل العمل من السجن وشعوره بالعجز التام عن ممارسة حياته الطبيعية لدرجة أنه عند دخوله الحمام لم يستطع التعامل، وقام بجلب صفيحة لأنه اعتاد على ذلك خلال أحلى سنوات شبابه، التى قضاها فى السجن) وقتها لم أصدق عينى وأنا أرى لحظة تحول تلك الموهبة الفذة وكيف تماهى وتوحد مع شخصية البطل، حيث استغل المساحة الضيقة، التى كنا نجلس فيها وجعلها تشبه خشبة المسرح يصول ويجول وهو يجسد المشهد أمامنا مؤكدا أن مفتاح الشخصية يكمن فى هذا المشهد، والذى هو تجسيد للقهر والعجز الإنسانى، وكيف أن بطل العمل لم يعد يعرف كيف يمارس أبسط حقوقه فى الحياة. يومها صفقنا بحب وانبهار بذلك الممثل المعجون بالموهبة، وكان حزنى شديدا عندما علمت أن سيناريو العمل استقر أخيرا عند النجم محمود عبدالعزيز، وذلك ليس تقليلا من حجم موهبة محمود، ولكن لأن أحمد كان يعيش ويستيقظ وهو يحلم بالشخصية، والتى كان بالتأكيد سيأخذها ويحلق فى منطقة متفردة من الإبداع.
ويبدو أن هذا المشهد الذى لا يزال محفورا فى ذهنى كان هو المفتاح لقراءة الكثير من الشخصيات، التى جسدها ولعبها أحمد بعبقرية.. وبلغة أهل الفن شخصيات مقفولة والمقصود بهذا التعبير أن أحمد "قفل الشخصية"، حيث لا نستطيع أن نتصور ممثلا آخر فيها.. وهذا الكلام لا يحمل أى قدر من المبالغة فهل نستطيع أن نتخيل ممثلا آخر فى دور منتصر بفيلم "الهروب"، أو عبد السميع فى "البيه البواب" أو ناصر فى "ناصر 56"، أو مستطاع فى "البيضة والحجر"، أو أحمد سبع الليل فى "البرىء" ، وهشام فى "ضد الحكومة"، وعلى عبدالستار فى "الحب فوق هضبة الهرم" ويحيى فى "أرض الخوف"، وغيرها من الشخصيات التى أبدعها زكى على الشاشة وحولها إلى درر فى عالم التمثيل وهذا يتسق تماما مع ما قاله النجم «أحمد زكى» فى العديد من حواراته عن نفسه حيث ذكر: «أنا لا أجيد الفلسفة ولا العلوم العويصة أنا رجل بسيط جداً لديه أحاسيس يريد التعبير عنها، لست رجل مذهب سياسى ولا غيره، أنا إنسان ممثل يبحث عن وسائل للتعبير عن الإنسان، وما يعانيه الإنسان المصرى من قهر وظلم هدفى هو ابن آدم، تشريحه، السير وراءه، ملاحقته، الكشف عما وراء الكلمات، ما هو خلف الحوار المباشر، الإنسان وتناقضاته، أى إنسان، إذا حلل بعمق يشبهنى ويشبهك ويشبه غيرنا، المعاناة هى واحدة، الطبقات والثقافات عناصر مهمة، لكن الجوهر واحد، الجنون موحد، حروب وأسلحة وألم وخوف ودمار، العالم كله غارق فى العنف نفسه والقلق ذاته، والإنسان هو المطحون».
وبهذا الإحساس الذكى تعامل أحمد مع أدواره لذلك شكلت رغبته فى تقديم البنى آدم بكل تناقضاته وصراعه الاجتماعى والسياسى البوصلة، التى اختار بها أدواره المميزة، والتى باتت أيقونات فى تاريخ السينما المصرية والعربية وتربع على عرش التمثيل، متوجًا ملكا للأداء الرفيع، والذى يصعب تكراره، فأحمد لم يقم أبدا بتقديم دور يشبه الآخر، بل هو نجم من ألماس يتوهج ويلمع ونعرف قيمته كلما مر الزمان.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة