كثيرًا ما يعتقد البشر أن الحياة تبدأ من القمة، دون أن تمر بها خَطوات تتقدم فيها وتنمو، لذٰلك يحلُم كثيرون بالصعود فى لمحات البصر إلى القمم! غير مدركين أن الصعود يتطلب جهدًا عظيمــًا، فإن الارتقاء يتكون من خَطوات، الواحدة تَلو الأخرى، إلى أن يتقدم الإنسان شيئــًا فشيئــًا نحو ما يسعى له، وهٰذه الخَطوات فى الحياة قد تكون لنا، وقد تكون لغيرنا، إلا أن ما يميز شخص عن آخر هو أسلوب فَهمنا لعمل الآخرين.
فهناك إنسان يرى أنه يجب عليه أن يبدأ دائمـًا من الصفر، وأن جميع محاولات الآخرين من قبله عبث لن تفيده شيئـًا! وأن السير فى طريق الحياة يحتاج إلى تمهل، وتكوين خبرة شخصية، والوصول بجُهده وإمكاناته إلى النجاح الذى يتوق إليه. وهناك من يعمل من حيث انتهى الآخرون، فيستكمل المسير، مدركـًا أن العمل والسير فى طريق ارتاده آخرون يكمنان فى تتبع خطاهم، ومن ثَم الوصول إلى تحقيق أعلى مما حققوه هم، إلى أبعد نقطة ممكنة لديه عما وصلوا إليها. وربما يكون من الصعب أن نختار أحد الأسلوبين على الآخر، إلا أن هناك بعض النقاط التى تميز الحياة الاجتماعية التى خلقنا الله لنحيا فيها.
أولاً: فى كلتا الحالتين، أن عاش الإنسان حياة اقتربت أو تشابهت هى وحياة الآخرين، أو اختلفت عنها، فإن الخبرات الحكيمة تساعد على تحقيق النجاح.
ثانيـًا: الحياة قصيرة وإن طالت؛ فمن الأفضل ألا نُضيعها فى اجتياز خبرات الآخرين عينها، إذ لن تكون لنا الفرصة أن يعيش كل منا حياته وخبراته المتميزة التى تصل به إلى الحكمة التى هى أكثر عمقـًا، كما أنه لن يتفوق فى عمله على ما أُنجز سابقـًا. لذلك قيل: "من قرأ التاريخ، فقد أضاف أعمارًا إلى عمره"؛ ونجد هذا واضحـًا فى حياة العلماء والمكتشفين؛ فهم يبدؤون من المعرفة التى وصل إليها من عاش قبلهم، ويبذِلون مزيدًا من الجُهد ليحققوا تطورًا أكبر يُفيد البشرية. فمن القِصص التى توضح هٰذا المعنى، فلسفة "فاراداى" التى قدمها يومـًا إلى إحدى السيدات التى هاجمت تجرِبة له أمام عدد من المشاهدين، فقد عرض يومـًا تجربة، أن قام بتوصيل سلكين نُحاسيَّين، ثم قرب مغناطيسـًا من لُفافة النحاس فتحركت إبرة المقياس؛ ما أشار إلى تولد التيار الكهربائى بقوة المغناطيس، وعندما أبعد المغناطيس عادت الإبرة لوضعها الطبيعى، وهنا أعلن "فاراداى" للمشاهدين أنه يمكن توليد التيار الكهربائى بهذه الطريقة ! وإذا سيدة تقترب غاضبة من العالم الكبير، وتقول: أهذا هو ما جمعتنا لرؤيته؟! ما نفع هذه التجربة؟ أم تَراك تسخر منا؟! أجاب "فاراداى": سيدتى، أن تجربتى مثل طفل لا يمتلِك إمكانات السير بعد، إلا أنه يستطيع ذلك فى المستقبل، فتجربتى، يومـًا ما، سوف تثبت فائدتها، وسوف تنمو وتزدهر حين تصير لها إمكانات!! وبالفعل أثبتت هذه التجربة نفسها، عندما صارت خُطوة لتوليد الكهرباء.
إن الاستفادة من خبرات من نلقاه وحكمته، أو من نقرأ عنه، تساعدنا فى النمو والتطور بطريقة أسرع من تلك التى تبدأ من الصفر؛ وهذا لا يعنى أن نفقد خصوصيتنا أو خبراتنا الشخصية فى الحياة، بل أن نعيشها بعمق واتزان. فيا عزيزى، لا تكُن شخصـًا آخر غير نفسك، ولكن تعلّم فى الحياة مِن كل من تلقاه.
• الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى