يتوزع اليمنيون مذهبيا بين زيود وبين شوافع، الزيود هم شيعة زيدية نسبة للإمام زيد بن محمد، وهم الأقرب إلى أهل السنة، والشوافع نسبة للإمام الشافعى الذى ولد فى غزة وتنقل حتى استقر فى مصر، وغير كثيرا من أطروحاته بعد استقراره فى المحروسة والتقى السيدة نفيسة رضى الله عنها.. ثم مات ودفن بالقرب من سفح المقطم، حيث عرفت الجبانة باسم مدافن الإمام الشافعى، وهو الذى قال فى إمام مصر الليث بن سعد: «كان الليث أفقه من مالك غير أن المصريين لم يقوموا به»! كما يتوزع اليمنيون بين العديد من القبائل التى أبرزها قبيلتا حاشد وبكيل، كما تنقسم أرض اليمن التاريخية إلى مناطق تلمع فيها أسماء حواضر كصنعاء والحديدة وتعز وصعدة ولحج وأبين وعدن إلى آخره!. وقد أنجب اليمن فحولا فى الفقه والشعر والتاريخ وأيضا السياسة، وعبر التاريخ لم يتعرض اليمن وخاصة شماله للاحتلال الأجنبى، اللهم مدى قصيرا للعثمانيين، بينما احتل البريطانيون الجنوب واتخذوا من عدن مركزا شديد الأهمية للإمبراطورية البريطانية، وقد احتدمت حركة التحرر الوطنى اليمنية فى الجنوب ضد الاحتلال البريطانى، وقادها فى البداية ولمدى طويل نسبيا قادة ينتمون للاتجاه القومى حتى آل الأمر للاتجاه الماركسى الذى تسلم قادته البلد بعد خروج الإنجليز.. ومن المفارقات المؤلمة أن الحكم الماركسى فى الجنوب وصل إلى طريق مسدود ووقع الشقاق والخلاف، إلى أن وصل إلى حرب ضروس حلت فيها «القبائل» محل التنظيمات، وصار الذبح على الهوية القبلية والمناطقية، وفى الشمال ظل الحكم بين الأئمة الزيديين إلى أن انتهى بثورة 1962 وكان الإمام أحمد ومن بعده ابنه البدر هما آخر الأئمة الذين فرضوا على البلد عزلة صارمة، حتى قيل إن اليمن يعيش صميم العصور الوسطى والبشرية فى القرن العشرين.
وأذكر أننى فى إحدى الرحلات زرت قصر الإمام أحمد فى تعز، وكنت بصحبة الصديق المهندس عبد الحكيم عبد الناصر، وكان قائد سيارة الضيافة الرئاسية رجلا يمنيا سبعينى العمر ويحمل رتبة عقيد شرف متقاعد بالجيش اليمنى، لأنه كان من أبطال حرب حصار السبعين يوما مع الفريق العمرى.. وفى القصر كان المدخل متواضعا يحتله طقم أنتريه أسيوطى، وفاترينة عرض زجاجية ممتلئة ببعض مقتنيات الإمام ومعظمها أقلام حبر من ماركة «تروبين» ودوايات حبر أسود وأزرق وأحمر.. ثم سلم ضيق تحتل كل بسطة فيه، أى البلاطة التى ينعطف فيها السلم لدور تال، مرآة ضخمة يرى الصاعد فيها نفسه.. وسألت لماذا هذه المرايات؟! فقيل لى على الفور: لكى يرى الصاعد على السلم أية حركة تتم وراء ظهره أثناء صعوده!!.. وفى الدور العلوى عدة غرف، منها غرفة نوم الإمام وأولاده و«الحشايا»، المراتب ملقاة على الأرض تنضح منها رائحة غير مريحة، وتتلوث أكياسها بآثار تبول على هيئة بقع كبيرة غير مستوية الشكل.. ثم تتدلى من السقف حبال تنتهى بدوائر على هيئة حبال المشانق.. وسألت أيضا فقيل لى: إنها الحبال التى كان يمسك بها الإمام وهو ينهض ويسير فى آخر أيامه، لأنه لم يكن يستطيع النهوض والمشى!..
وعند عودتنا من تعز إلى صنعاء، والصديق العقيد المتقاعد يقود بنا، سألته عن بعض الذكريات من عهد الأئمة، فقال إنه ما زال يتذكر فيما هو طفل أنه شهد إعدام الشهيد «أحمد الثلايا» قائد ثورة الخمسينيات ضد الحكم الإمامى، والذى قبض عليه وقرر الإمام قتله ذبحا بالسيف.وكيف أن الإمام كان إذا أراد التنكيل بخصومه المحكوم عليهم بالإعدام انتدب لهم طباخ قصره بدلا من الجلاد المتخصص فى قطع الرقاب، والسبب أن الجلاد يعرف كيف يوجه الضربة بسرعة كبيرة وبقوة إلى أحد مفاصل فقرات العنق، فلا يشعر الضحية بالضربة مثله مثل الدجاج الذى يذبح بنصل حاد، أما الطباخ غير المدرب فيظل يهوى على عنق الضحية مرة ومرتين وثلاثا، وربما أكثر، حتى يفصل الرأس عن العنق، واستطرد محدثنا وقال: إنه أثناء تقديم الشهيد أحمد الثلايا أوثقه الجلاد، وصاح فيه الثلايا: اقتل يا كلب واحسن القتلة فغدا تنهش الكلاب جسدك وجسد سيدك، ثم بدأ فى نطق الشهادتين ليهوى الجلاد بسيفه فإذ بالرأس الطائر ينطق النصف الثانى من الشهادة «وأن محمدا رسول الله» وهو ملقى على الأرض! ثم استطرد الرجل ليرد على سؤالى: يا سيادة العقيد لا تؤاخذنى هل الأفضل العقاب بالسيف أم بالرصاص؟ ورد بسرعة وبساطة: التسييف، أى الضرب بالسيف أكثر حنانا من الترصيص! واستكمل: إذا كان الجلاد ماهرا والسيف بتارا فإن الضربة لا يشعر بها الإنسان، مثلما يتعرض أصبعك للجرح من سكين حاد فلا تلاحظ إلا مع رؤيتك الدم يلطخ أصابعك. عاش الشعب اليمنى فصولا رهيبة فى مسيرة زمانه، فإلى لقطة أخرى.