قبل أسبوع تقريبا ناقش الباحث المتميز هانى نسيرة أطروحته للدكتوراه فى كلية دار العلوم/ جامعة القاهرة عن تأثير ابن تيمية على التنظيمات الجهادية المتطرفة، والتى سقط الكثير منها فى فخ الإرهاب الدموى والتخريب والتدمير، ونظرا لأهمية هذه الأطروحة فى وقتنا الراهن، أعرض هنا الخلاصات كما انتهى إليها الباحث بتصرف قليل، لعلها تقود الباحثين والمهتمين إلى مطالعة هذه الدراسة العميقة والمهمة:
1 - غلب على القراءات الجهادية لابن تيمية الابتسار والاقتطاف دون انتباه لمجمل الخطاب، ووقعوا فى مناطق الاشتباه دون المحكم من هذا الخطاب.
2 - إن الضبط المنهجى فى قراءة خطاب ابن تيمية عاصم مهم من الخطأ والزلل فى فهمه، وتقترح هذه الرسالة منهج المقولات الحاكمة والتصورات الرئيسة كنهج يستطيع أن يجمعها ويحدد أولويتها فى تجديد وتمكين أهل السنة والجماعة فى مواجهة الخطر الداخلى المتمثل فى الفكر الباطنى والفرق الضالة والمبتدعة، وما رآه انحرافا لدى بعض المنسوبين لأهل السنة كالصوفية والأشعرية، وفى مواجهة الخطر الخارجى المحدق بالأمة من المغول والصليبيين وموالاة هذه الفرق لهم.
3 - بينما يبدو ابن تيمية رافضا ومنكرا لتكفير المعين، يحضر إصرار الجماعات الجهادية المعاصرة على مسائل التكفير، سواء فى ذلك تكفير المعين أو التكفير استنادا لأحكام الديار، واعترض بعضهم على أرائه فيها صراحة، وخرجوا عليها ولم يقبلوا أراءه فيها، ولم يلتزموا منهجه مخالفين له، رغم أنهم يستندون بشكل رئيس لفتواه فى ماردين التى هى جزء من تصوره للديار فى الإسلام.
4 - لم تكن الإمامة ومسألة الحكم مسألة أولوية أو رئيسة فى خطاب وجهاد شيخ الإسلام ابن تيمية، على العكس من الحركات والجماعات الجهادية، وأكد شيخ الإسلام ابن تيمية فى منهاج السنة ردا على الشيعة أنها ليست من أشرف المسائل فى الدين، بل مسألة متأخرة، فقد كانت قضيته الأولى هى التوحيد وإصلاح عقائد الناس وفهمهم للدين، والخوف من الفرق والبدع أكثر من خوفه من الملل والنحل الأخرى.
5 - تعاطى ابن تيمية مع السياسة والحكام تعاطيا واقعيا قائما على النصح والنقد السلمى والمدنى، وهى سمة عامة للمذهب الحنبلى، سبقه إليها أحمد بن حنبل، وجددها ابن تيمية بمنهجه الحجاجى الذى كان فيه سامقا عن سابقيه ولاحقيه من الحنابلة والمنتمين لأهل الحديث، واعترف وأكد رحمه الله على أهمية الشوكة فى الحكم، وكذلك على جواز تعدد الحكم فى العالم الإسلامى، كما يميل موقفه فى الجهاد لجهاد الدفع على جهاد الطلب.
6 - أهملت ما تسمى «السلفية الجهادية» والحركات التابعة لها فى مرحلتها الأولى، وفى مراجعاتها، أيضا النظرية السياسية الإسلامية السنية فى الإمامة، حين قبلت منذ البداية بالخروج الذى كان سمة للفرق غير السنية كالشيعة والخوارج، والخروج يبدو مستبعدا فى فكر وسيرة شيخ الإسلام الذى كان يتحرك دائما من داخل المشروعية الحاكمة، وليس خارجا عليها، كما أخطأ «الجهاديون» فى إهمالهم قراءة التاريخ الجهادى لابن تيمية، ففتواه فى التتار محرفة فى طبعتها عن أصلها، كما أن تاريخه الجهادى يؤكد أن التتار أو غيرهم لم يكن أولويته بل الفرق الأخرى.
7 - بينما تشتد الحركات الجهادية مع مخالفيها، تبديعا أو تكفيرا، نجد شيخ الإسلام ابن تيمية نافرا من تكفير المخالفين أو تبديعهم، يرفض التعيين، يخطئ ولا يكفر، ويصوب ولا يقصى، وفى مواقفه من منتقديه وأسباب محنه كنصر المنبجى وابن عطاء الله وغيرهم واحترامه لمخالفتهم دليل واضح على ذلك.
8 - عادت «السلفية الجهادية» فى مراجعاتها عما سبق أن أكدته، وعادت لأراء ابن تيمية فيما سبق أن خالفته فيها، خاصة ما يتعلق بمسألتى حكم الدار والعذر بالجهل والتكفير دون شرط الجحود والاستحلال.
9 - اهتم خطاب ابن تيمية وممارسته بالاعتبار التاريخى والوعى بالمآلات ونتائجه، وهو ما عادت له هذه الجماعات فى مراجعاتها، وإن لم تشملها، فقد اعتمدت فقه المآلات وفقه التاريخ، بعد أن كان يرفض بعض منظريها هذا التطور التاريخى ويتعالى عليه، رافضا ما اصطلح عليه بـ«فقه السيرة»، بينما شيخ الإسلام ابن تيمية فى فتاويه - خطابه التاريخى - أو فى تأسيساته الثابتة يعطى اعتبارا كبيرا للسيرة ولتاريخ النبى صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده، فى فهم الأحكام والوقائع.
10 - ابتسرت «السلفية الجهادية» فتاوى ابن تيمية التاريخية كفتوى التتار بالخصوص عن سياقاتها وتجاهلت محل الفتوى وخصوصيته التاريخية والثقافية والاجتماعية، أو تحقيق مسألتها تاريخيا، كما ابتسرت فتوى التترس وغيرها من فتاوى ابن تيمية.
11 - كان من أبرز أخطاء «السلفية الجهادية» فى قراءتها لابن تيمية هى خلطها بين الزمنى والتاريخى من جهة وبين العقيدى والثابت من جهة أخرى، واستخدامها مفاهيم وحمولات ابن تيمية النظرية بنفس مفاهيمها المعاصرة والخاصة لها، ومن ذلك على سبيل المثال مفهوم الشريعة الذى يستخدمه ابن تيمية بمفهوم كل الدين اعتقادا وشرائع، وخاصة الأولى، بينما تستخدمه هى بمفهوم القوانين والتشريعات الإسلامية، كما أن ابن تيمية وتلامذته، كابن القيم فى الطرق الحكمية، أجاز التوسع فى الاجتهاد السياسى، لأنه والجهاد مسائل تقديرية واجتهادية، وشرع الأخير للضرورة، وقد وقع هؤلاء المتسلفة فى اجتزاء نصوص ابن تيمية وخلعها من سياقاتها ومجمل خطابه.
12 - حدث تنازع على ابن تيمية بين فكرى «السلفية» و«السلفية الجهادية» من جهة أخرى، وكذلك بين تأسيسات السلفية الجهادية الأولى وبين مراجعاتها الثانية، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية مرجعا فى كليهما، مما يؤكد فرضيتنا على مشاكل القراءة لدى كثير من المنتسبين له.
13 - باستثناء أبوالأعلى المودودى الذى عرف ابن تيمية، ويبدو أنه استفاد من فكر ابن تيمية التوحيدى فى «المصطلحات الأربعة»، يغيب ابن تيمية وخطابه وتراثه عند حسن البنا وسيد قطب، ما يجعلنا نرجح أن كليهما لم يطلع على تراث ابن تيمية، ولم يطلع عليه كذلك تقى الدين النبهانى مؤسس حزب التحرير، وإن استعان به الهضيبى فى «دعاة لا قضاة» فى ذم التكفير ورفضه، وأن هذه الحركات كانت منطلقة من كلامية أشعرية فكرية سياسية، بعد سقوط الخلافة الإسلامية، أكثر من انطلاقها من النصوص أو المرجعية السلفية، ورغم أن رشيد رضا عرف تحوله الأكبر للدفاع عن فكرة الخلافة واستعادتها عقب سقوطها، إلا أنه كان أقرب لـ«ابن تيمية» وللنص السلفى من حسن البنا، الذى كان حركيا أكثر منه.
14 - تثبت دراسة ابن تيمية ومراجعته المستقلة، وكذلك مراجعات السلفية الجهادية بعد تأسيساتها الأولى أن ثمة فروقا بين شيخ الإسلام والحركات الجهادية المعاصرة، أهمها أن أولويات ابن تيمية كانت الدعوة على السلطة، وأولوية الأمة على الإمامة، وتعيد للمجتمع المسلم حيويته ومعياريته الأخلاقية وصفاءه العقدى بعيدا عن سراديب السلطة واختلافات الإمامة، وهذا ما لم يفهمه أولئك الذين نقلوا عنه نقلا مبتسرا.
وفى ظنى أن هذه الأطروحة تساعدنا إلى حد بعيد فى الوقوف على الكثير من مفاتيح تفكير وتدبير الكثير من التنظيمات المتطرفة والإرهابية، وكذلك المتسلفة الذين يصرون على أن يتحكم الأموات فى الأحياء، ويضعون العراقيل دوما أمام تطور مجتمعاتنا إلى الأمام.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة